من الأفلام التي فاجأت الجميع بمستواها الفني لهذا العام فيلم "زاحف الليل" "Nightcrawler"، فمنذ عرضه في تورنتو وهو يحصد ثناء نقدياً تمت ترجمته بوجوده في قوائم أفضل عشرة أفلام لهذا العام لكثير من النقاد، بالإضافة إلى قائمة معهد الأفلام الأمريكي والمجلس الوطني للترشيحات ورابطة لندن لنقاد الأفلام، وكذلك في ترشيحات جائزة نقاد السينما. أما جيك جالينهال فقد حصل على ترشيحات كثيرة عن دوره في هذا الفيلم، ومنها ترشيح الجولدن جلوب وجائزة نقاد السينما ونقابة الممثلين، وهي النقابة الأهم كمؤشر على ترشيحات الأوسكار لهذه الفئة. ورغم وجود أفلام لمخرجين مهمين هذا العام، لكن دان غليروي، مخرج فيلم "زاحف الليل"، تفوق عليهم في فيلمه الأول، بعد أن كان قد عرف في هوليود من خلال مشاركته في كتابة عدة أفلام، آخرها فيلم "The Bourne Legacy"(2012)، الذي أخرجه أخوه توني غليروي وشاركه في كتابة نصه . ويمكن القول إن أحد أهم نقاط قوة الفيلم هو أداء جالينهال لشخصية لوي بلوم في الفيلم. وبلوم، كما نراه في "زاحف الليل" هو شخصية سوسيوباثية (أي شخصية معتلة اجتماعياً ولا تمتلك ضميراً أخلاقياً يؤنبها على شيء)، وهي شخصية مناقضة للبطولة، وقد يكون سر تميزها، هو أنها مخيفة في لا أخلاقيتها ومثيرة للشفقة في ذات الوقت. يبدأ الفيلم بأن نرى بلوم يعتدي على شرطي ليسرق ساعته ويأخذها للبيع في أحد المحلات، ثم يطلب من صاحب المحل العمل، ويلح في الطلب، ولكن صاحب المحل يخبره بوضوح أنه لا يوظف سارق. نراه بعدها يدور هائماً في شوارع مدينة لوس أنجلوس ويصادف حادثاً في الطريق، يظهر أن الحادث ناتج عن سرقة سيارة وينتبه إلى مصوري فيديو يسرعون في التقاط مقاطع مصورة لمحطات الأخبار. يعرض على أحدهم أن يعمل معه ولكنه لا يلقى قبولا، ومع ذلك يبدو واضحاً أن التصوير قد أغراه بالمغامرة. يذهب سريعاً لشراء كاميرا فيديو وينطلق ليصور حادث سرقة سيارة آخر. يذهب بعدها لمحطة أخبار ويعرض عليهم مقطع الفيديو المصور، ويلتقي هناك بمديرة قسم الأخبار في قناة محلية تدعى "نينا" (رينيه روسو). تأخذ نينا المقطع المصور رغم احتوائه على خرق للخصوصية بظهور وجه الضحية، ورغم أن المقطع صادم وفيه مناظر مزعجة، لكنها لا تتوانى عن عرضه بعد أن تطمس وجه الضحية، سعيدة بأن هناك ما يميز القناة في العرض، حتى وإن كان منافياً للذوق العام. يفرح بلوم ويقرر بنوع من الهوس النجاح في المهنة الجديدة مهما كان الثمن. إصراره على النجاح وترديده بشكل آلي لمقاطع من كتب تطوير الذات هي ما يبدو نوعا من الكوميديا السوداء في الفيلم وهي أيضاً ما تثير الشفقة تجاهه. يبدأ بلوم بالاستعداد بشكل أكبر للعمل ويوظف شابا بسيطاً معدماً اسمه ريك (ريز أحمد) ليتفرغ بالتركيز بشكل أكبر على التصوير، وهذا (من وجهة نظر بلوم) يعني أنه لا مانع من أن يغير مكان جثة أو يرتكب أي عمل يمكن أن يودي بحياة الآخرين، طالما أنه سيحصل على مشاهد مميزة لعرضها بسعر عال على القناة. أكثر ما يميز أداء جالينهال في الفيلم هو تلك النظرة الصلبة والابتسامة الباردة التي لا تعكس أي ود حقيقي، وإنما هي جزء من القناع الذي يضعه على وجهه، للتقرب من الآخرين، كما أن تعبيرات وجهه تكاد تكون ثابتة إلا في لحظات الانهيار الكامل التي أظهرت وجها آخر لشخصية اعتادت أن تحسب كل عبارة وكل حركة. لا يملك المشاهد حين مشاهدته لبلوم إلا أن يتذكر "ترافيس بيكل"، وهي الشخصية التي أداها روبرت دينيرو في رائعة سكورسيزي "سائق تاكسي"، خاصة في المشاهد التي تبين وحدته في منزله وفي دورانه في الشوارع، مع الفارق بالطبع بين طابع مدينة نيويورك المزدحمة مساء وشوارع لوس أنجلوس التي تبدو موحشة نوعا ما، ومع الفارق أيضاً في أمور كثيرة أهمها أن الشخصية لدى سكوريزي كانت محور العمل، ولذلك فقد كان بناؤها أكثر عمقاً، في حين أن شخصية بلوم كانت وسيلة للمخرج المؤلف لإدانة القنوات الإخبارية التي لا تتوانى عن عرض أي شيء في سبيل رفع نسبة المشاهدة، وهي التي تسمح لمثل بلوم (وهي كلمة بالإنجليزية تعني الإزدهار) أن يتكاثروا وتزدهر أعمالهم. ويحسب للفيلم أيضاً تميزه النواحي الفنية. فقد كان تصوير بلوم في مقاطعه في البداية واضحاً كمقطع فيديو لهاو، ثم بعد ذلك كان التصوير ينتقل من كاميرا سينمائية محترفة إلى كاميرا فيديو عادية بكل سلاسة وبشكل مقنع وواضح جداً لم يخلق لبساً أثناء المشاهدة. وهنا يبدو أيضاً أن تميز المونتاج في نقلاته السلسة. ويبقى أنه قد لا يكون للفيلم حظ كبير في الجوائز ولكن وجوده في قوائم الترشيحات في حد ذاته هو إنجاز كبير جدا لعمل أول.