ظل الانترنت حتى نهايات القرن العشرين يعيش موجته الأولى المتميّزة بتكاثر المواقع والبيانات، مع قليل من التفاعل. وحينها، كانت سلطة المعلومات متمركزة في الكيانات التقليديّة للمعرفة وحرّاس بوابات المعلومات. وفي السنوات الأولى من القرن الـ21، شهدت شبكة الانترنت تغيّراً نوعيّاً يعلن ميلاد «الموجة الثانية» المتميّزة بكثافة التفاعل والتواصل والمحتوى الاجتماعي والشعبي. إذ عبّرت عنها المُدوّنات ومواقع التواصل الاجتماعي، وثقافة الـ «ويكي»، والانتاج الجمعي للمعرفة. وصدر حديثاً عن «مركز الأهرام للنشر» كتاب «نبوءة آمون: الانترنت من الحرب الباردة إلى حروب الجيل الرابع وفتنة الأجيال». ألّفه الدكتور خالد الغمري، وهو أستاذ مساعد اللغويّات الحاسوبيّة في «جامعة عين شمس». ويؤكّد الكتاب أن لا شيء كبيراً يدخل حياة الإنسان، إلا وحمل معه لعنة كبيرة أيضاً، وفق أسطورة مصريّة قديمة! ويورد الغمري في ذلك الكتاب أنه عندما اخترع «تحوتي» الكتابة، اقترح على آمون أن يستخدمها المصريون كي تزيدهم حكمة وقوة ذاكرة. ولكن آمون حذّره بالإشارة إلى أن تأثير اختراع الكتابة يدفع المتعلمين إلى إهمال ذاكرتهم، بل «أنهم سيظهرون كأنهم أصحاب علم لكنهم في الحقيقة لا يعرفون شيئاً، ويصبحون أكثر صخباً وأعلى صوتاً، فتكون صحبتهم مزعجة». ورافقت «نبوءة» آمون ومخاوفه ظهور رموز الكتابة ما قبل الأبجديّة. ومع انتشار الانترنت، تضاعفت المخاوف لتكون بحجم الانترنت ومعطياتها وجمهورها الذي يغطي الكرة الأرضيّة. إذ تتميّز معظم أرقام الانترنت وانتشارها بالضخامة عدديّاً، ما يفسر تأثيرها، بل ربما ظهور مبدأ «الكثرة تغلب الحقيقة» في ما يخصّ انتشار المعلومات أو وأدها، خصوصاً عبر مواقع التواصل الاجتماعي. ويشير الغمري أيضاً إلى أن دولة الانترنت لها زعماؤها الذين يسيطرون على المعلومات والمعرفة. «نجد مثلاً أن محرك البحث «غوغل» هو الباحث الأعظم، والبوابة الملكيّة للانترنت، وأمين المكتبة، وكاتم الأسرار في العوالم الافتراضيّة. ولا يتوقف البريد الإلكتروني عن العمل ولا يتأخر غالباً في توصيل الرسائل. ويؤدّي و «يوتيوب» دور تلفزيون الشعب، بل أنه «من الشعوب وإليها». المعرفة في مسار «المشاع الإبداعي» يمثّل «فايسبوك» داراً للاحتفالات الرقميّة بأعياد الميلاد والخطوبة والزواج والنجاح، وهو أيضاً المقهى ومجلس النميمة وخيمة القبيلة. وينهض «تويتر» بدور مكتب التلغراف، برسائل لا تزيد على 140 حرفاً. وتكتسب «ويكيبيديا» وجه الموسوعة الأضخم في تاريخ البشرية، بل يرى فيها بعض الخبراء، أكبر وأنجح تجربة للانسانيّة في الابداع الجماعي، والتحرّر من حقوق الملكية الفكريّة، والانتقال إلى مرحلة «المشاع الإبداعي» Creative Commons. ويؤدّي موقع «أمازون» دور سوق الانترنت ومركزها التجاري، ما ساعد في انتعاش صناعة النشر الرقمي. وفي المقابل، تبدو التجارة الإلكترونية أيضاً أكثر عرضة للسرقة والنصب والقرصنة وانتهاك حقوق الملكية الفكرية، والصناعات الثقافيّة، ما ألحق ضرراً بكثير من الكتب والموسيقي والأفلام. ويلاحظ الغمري أن علاقة «فايسبوك» مع غيره من الشبكات الاجتماعيّة، تشبه علاقة «غوغل» ببقيّة محركات البحث. إذ يسعى «غوغل» إلى فهرسة العالم، وهندسة المعرفة، وإتاحتها للجميع. كما يريد «فايسبوك» هندسة التواصل والعلاقات الاجتماعيّة وتحويلها إلى أرقام ووصلات إلكترونية. ولا يتّفق الباحثون حول التأثير النفسي لـ «فايسبوك». وهناك دراسات كثيرة لاحظت تأثيره سلبيّاً لأنه يتسبّب في تلويث المعرفة والثقافة، عبر كونه آلة ضخمة لانتاج الشائعات ونشرها، بل أرشيف ضخم من الثرثرة والصخب الإلكتروني. وفيما يرى البعض في «غوغل» تمكيناً معلوماتيّاً ومعرفيّاً، يراه آخرون تجسيداً لمفهوم شعبوي عن المعرفة، يهدد جودتها ودقّتها. إذاً، لا تعترف الانترنت بحدود الجغرافيا والثقافة، بأن تجعل التفاعل سهلاً وسريعاً بين أشخاص ينتمون إلى هويّات ثقافية مختلفة. وهناك من يرى أن مجريات الأمور في بعض الدول العربية، هي «حروب الجيل الرابع»، متأتّية من صراع بين إيديولوجيات «الكبار» وتكنولوجيا «الشباب». ويبدو أن الشباب أسقط الإيديولوجيا لمصلحة تبني التكنولوجيا. وفتح الأمر باباً لحروب العقول والأفكار والثقافة والمعلومات والمجتمعات. ثمة من يتحدث عن «حروب الجيل الخامس»، أو حروب الاحباط والعنف. وبصرف النظر عن صحة أجيال الحروب من عدمها، لم يعد بناء القدرات المعلوماتية أمراً اختياريّاً، بل بات ضرورة تفرضها تحوّلات جذريّة في الاجتماع وتاريخ العمران، وتطوّر آليات الصراع بين الدول، وطبيعة الحروب التي أصبحت المجتمعات طرفاً فيها، ربما لسنوات طويلة قادمة!