جلس الشّيخ تحت شجرة التّين... افترش جلد ماعز أكل عليه الدّهر ولم يشرب... نفخ في حطب كانونه من لهب روحه المحترقة منذ أن فقد ابنه في حادث شغل فظيع... وضع عصاه المتعدّدة الاستعمال على يساره وعلبة الكبريت على يمينه... لحظات ويكون الشّاي المعطّر بالحشائش الجبليّة جاهزاً... لاطف شاربيه المنتصبين كعقارب ساعة تشير إلى الرّابعة إلاّ عشرين دقيقة... فجأة سقطت تينة على رأسه من غصن الشجرة... وقتها، ووقتها فقط اكتشف قانون الجاذبية الذي يجذبه إلى هذه الأرض الطيّبة. ألوان تحزّمت الأرض بقوس قزح... رذاذ المطر يبلّل ثياب راع يرعى اللّحم والحليب والصّوف... عواء ذئب جائع يخترق المكان... تسمّرت الكلاب مكانها متأهّبة للدّفاع عن حياة غنم ينذرها الموت... جذب الرّاعي بندقيته من داخل الخيمة... أطلق ثلاث رصاصات في الهواء... هرب الذّئب والموت وبقي الجميع أحياء إلاّ قوس قزح فقد توارى عن الأنظار... أحسّ الرّاعي بحزن خفيّ كأنه فقد شياهاً من قطيعه... فقوس قزح اختفى وعادت حياته كما هي دائماً. جفاف كل الوجوه متسمّرة أمام شاشة التّلفزة تنتظر حلول موعد النّشرة الجويّة... الجفاف كشّر عن أنيابه منذ أكثر من سنتين... الفلاّح ورفيقة أرضه ينتظران بشرى بإمكانية نزول المطر... لكن كالعادة يمرّ السّحاب على غير خارطة الوطن... يتنهّدان بعمق عميق ويقرّران الرّحيل إلى حيث تتناسل الحنفيّات... غدا يفقد الرّيف بدويّاً صادقاً طالما غنّى للأرض والعرض. لدغة خرج والشّمس تطلّ بنصفها من سفح الجبل... سلاحه توكّل على الله وفأس... زحزح حجراً متحجّراً بأرض جرداء فلدغته عقرب صفراء من سبّابته... هرول مسرعاً إلى المتطبّب الذي يمصّ اللّسعات... كان مفعول المصّ جيّداً بنجاحه في إخراج السّم... منذ ذلك الوقت وهو يفتّش عن مصّاص يمصّ لدغات البشر... خاصّة من يثق بهم ومع ذلك لدغوه من حيث لا يحتسب. الأرملة أذّن الدّيك معلناً حلول موعد صلاة الفجر حسب التوقيت المحلّي للقرية الجبليّة النّائية... قامت الأرملة متثاقلة من فراشها... توضأت بماء «سيبيريّ» بارد، فقد تعوّدت على مشاكسة الطبيعة منذ نصف قرن... صلّت ركعتين... دعت للمرحوم الذي منحها الدفء طيلة حياته... بعدها تسلّلت إلى فراشها... كلّ أغطية العالم وسخّاناته لن تمنحها الحرارة المفقودة... فقد أصيبت بداء الانحباس العاطفي منذ ذلك التّاريخ المشؤوم. دجاجة الدّجاجة تقاقي معلنة عن وضعها بيضة... شخير البغل يخترق صمت المكان وأذناه مصوّبتان اتّجاه أفعى تزحف نحو القنّ... السّباق يومي بين ربّة البيت والأفعى: من يصل الأول إلى البيضة؟... تعود العجوز متثاقلة بعد يوم حصاد مضن لسنابل قزميّه متنأثرة على أرض عطشى... تتّجه إلى القنّ على أمل الفوز ببيضة... لا تجد غير أثر الأفعى... تخبّط فخذيها بيديها الشّاردتين... والدجاجة تقاقي وتقاقي وتقاقي...