غالبا ما يتعرّض الموهوبون للإنكار في مقتبل أعمارهم من طرف محيطهم الاجتماعي الضيق، قبل أن ينتزعوا الاعتراف اللائق بهم، في وقت لاحق، من قبل المجتمع الأدبي أو العلمي الذي ينتسبون إليه، ويصحّ وصف الانتقال من حال الإنكار إلى حال الاعتراف بالعبور من التجهيل إلى التعريف، ويقتضي ذلك وصفا للصعاب، والعثرات، والإحباط، والإحساس بالضياع، قبل الظفر، والانتشاء بالحال الجديدة التي انتهى إليها المرء، وقد خلّف وراءه الصعاب كافة، وأحال صدود الآخرين إلى قبول عام له. حدث ذلك لكثيرين عبر التاريخ الأدبي، وأسهب طه حسين في التعبير عنه في كتاب "الأيام"، فقد رأى في تجربة حياته مأثرة جديرة بالسرد المطنب الذي كشف ارتحالا متدرّجا من عالم خامل إلى وسط حيّ، ومع أن كاتب السيرة قد يتغنّى بالحقبة الغفل من ماضيه البعيد، لكنه يضمر ازدراء خفيا لها بإظهار الاحتفاء بها إثر الاعتراف، إذ يرجّح تحليل نصوص السير الذاتية عزوفا عن الماضي، وعدم الرغبة في العودة إلى مرحلة المجهولية. وليس ذلك بخطأ؛ فقد انخرط المرء في بيئة ثقافية جديدة، وأصبح مركز استقطاب لغيره، ولم يعد نكرة في جماعة غفل، وصار من المتعذر أن يحقّق له عالمه الأول أيا مما هو بحاجة إليه في عالمه الجديد، لكن التغنّي بالعالم الأول، وإعادة تمثيله، والحنين الهوسي، أحيانا، إليه، إنما يشكل معادلا موضوعيا يراد به رتق الهوة الفاصلة بين العالمين. على أن الطباع النفسية المتغيّرة، والظروف الاجتماعية المتقلّبة، والأدوار الثقافية أو المهنية، وتغيير رؤية المرء لنفسه ولعالمه، كل ذلك يلعب دوره في ترتيب علاقة الاتصال بعالم الماضي، والانفصال عنه، فلا المرء قادر على نسيان ماضيه، ولا هو قادر على العودة الفعلية إليه، ولا هو قابل، القبول كلّه بحاله الحاضرة، ولا هو قادر على هجرها، والتخلّي عنها، وعلى هذا يرسم السرد الذاتي توازنا خادعا يخفي قلقا مضمرا لا يلبث أن يجد له مكانا للظهور في ثنايا الأحداث والأوصاف والأحكام. ليس ثمة حدث فاصل في حياة طه حسين القروية غير واقعة العمى، والتعثّر في حفظ القرآن، وقد أسهب في وصف ذلك في الجزء الأول من سيرته، وبانتقاله إلى القاهرة طالبا في الأزهر صوّر تفاقم شعوره بالعزلة، إذ وجد نفسه تائها في مدينة تحتاج منه إلى معين لمواصلة حياته، فمتاهة العاصمة ومبانيها غير دروب القرية وبيوتها، لذا غمره شعور بالعزلة قارب أن يكون قنوطا؛ فقد غادر مكانا أليفا يشاركه فيه الأهل والأصحاب إلى مدينة تتلاطم فيها أمواج الغرباء، وفيها جرى تجهيل حاله، أكثر مما كان عليه أمره في الجماعة القروية التي ينتمي إليها، ولطالما نودي عليه ب"الأعمى" فقد أمسى فقدانه البصر علامة نقص ملازمة له في وسط إجتماعي يفتقر إلى الحميمية التي كان عليها في القرية حيث كانت تتوفر له فيها الحماية والمشاركة والألفة، ولم يخل الأمر، في عالمه الجديد، من توبيخ مقصود له بوصفه ضريرا فاقدا للأهلية، وترك ذلك خدوشا في نفسه مما جعله متبرما بنفسه وبالعالم الجديد الذي رُمي فيه، وتلك مرحلة محتّمة لابد أن يمرّ بها المرء قبل انتزاع الاعتراف به، فتسليط الضوء عليها يظهر أن الصعاب تزداد تعقيدا قبل أن تنحلّ دفعة واحدة. استمرت هذه الحال طوال وجود طه حسين طالبا في القاهرة، فظهر مكافحا يشق طريقا صعبة وسط عالم عزف عنه، وتضاعف ذلك حينما قصد فرنسا للدراسة، فلازمه إحساس بالعار لأنه أعمى حينما غادر مصر أول مرة، وراح يتخفّى نهارا في غرفته في السفينة، ولا يخرج منها "إلا حين يتقدّم الليل" قبل أن يعرض عليه أصحابه أمر إخفاء عينيه بنظارات شمسية، فارتاح لذلك، وواظب عليه إلى نهاية عمره، وبذلك جرى حجب عاهته عن الآخرين، وتمكّن منه الشعور نفسه حينما استقل قطارا من روما إلى باريس في رحلة طويلة استغرقت ثلاثين ساعة، دون أن يبرح مكانه، كأنه "متاع قد ألقي في ذلك الموضع"، وامتنع، طوال الرحلة، عن الطعام والشراب والكلام، وقد انكفأ على نفسه في إعراض وتصميم، ملتزما العزلة والصمت حتى وصوله باريس، وقد أطبق اليأس عليه. غمر طه حسين شعور بالخذلان، والعزلة، فلاذ بأبي العلاء المعرّي، وتذكّر قولته المشهورة "إن العمى عورة"، فغرق في حال نفسية مزعزعة من الانكسار جعلته أسير العزلة في مدينة مفتوحة، قبل أن يستعيد ببطء ثباته، ولطالما أغرق نفسه في مشابهة مع نظيره لا تكاد تغيب عن حياته، فكان يتأسّى به في المرحلة الأولى من حياته، وبمرور السنين قام بتعديل علاقته بسلفه، فأصبح أبو العلاء محفّزا بعد أن كان ملاذا، وراح يتغلب على الصعاب كلما اشتدّ عوده، فواجه مصيره ضريرا، وقد اعترف بما هو عليه، وتصالح معه، فاجرى تحويلا جذريا على مسار حياته، فيما بعد، وعوض أن يصبح العمى عائقا صار حافزا، فقد تخطّى حبسة العمى، وتعايش مع حاله ضريرا، وكما قالت "فدوى مالطي دوغلاس، في كتابها عنه" فقد تخلّص بطل الأيام، وهو الناطق بأفكار طه حسين "من الأدوار الاجتماعية للأعمى وأجبر المجتمع على القبول به حسب شروطه الخاصة. ومن خلال ذلك تتشكل معالم علاقة جديدة مع عماه الخاص، حيث أصبح بالإمكان أن يذكر البطل بأنه أعمى بدون إحساس بالمرارة أو الذل، ولكن بالكثير من الكبرياء". انصب اهتمام طه حسين على بيان الصلة بين العمى والطعام واللباس والعلم، وكلما مضى في كتابة سيرته توقف على تلك العلاقة الشائكة، فكأنها محدّد من المحدّدات الكبرى التي تفصل بين حال الإبصار وحال العمى، وكان دشن لذكرى الطعام في نفسه، حينما ضبط أعمى وسط أفراد أسرته، وواصل ذلك في حياته القاهرية، وفي طريقه إلى أوربا للدراسة، وفي كل ذلك ظهر خجولا، ومرتبكا، ومنزويا، فكان يلوذ بمكان خاص به لتناول طعام مخصوص، ليتجنب ما يلوّث ملابسه،، كما فعل أبو العلاء، فلقد وجد بأن العمى عاهة تفضح جهل صاحبها، فكل حركة عفوية قد تثير فضول الآخرين أو ربما اشمئزازهم، وتبدو صلة العمى بالملبس حاضرة في مراحل حياته كافة، وبخاصة حينما تخلى عن زيه المصري التقليدي وارتدى زيا أوربيا، فالاعتناء بمظهره وهندامه بحاجة إلى شخص يساعده فيه، وقد حار بأمره حينما قرر ارتداء أربطة العنق، ولعله قد أثار الفضول بين ذويه حينما عاد بزيه الجديد محدثا حالة من العجب حوله، فلم يقتصر التغيير على أفكاره إنما شمل ملامحه الخارجية، على أن صلة العمى بتلقّي العلم، قراءة وكتابة، كانت المهيمنة الأساس في سيرته، وفي مجمل حياته الشخصية والثقافية، وفي كل ذلك كان يعتمد على قارئ ينقل إليه أفكار الآخرين حينما يريد أن يقرأ، ويملي عليه أفكاره حينما يريد أن يكتب، وقد "تعود أن يأخذ العلم بأذنيه لا بإصبعيه". قد يبدو الربط بين العمى من جانب والطعام والملبس والعلم من جانب ثان، غير ذي أهمية للمبصرين، لكنه يمثل تجربة اختبار جديرة بالثناء بالنسبة للعميان، فتلك الثلاثية هي التي تحدّد نوع علاقاتهم بالآخرين، وبعبارة أدق هي التي تحدّد درجة تابعيتهم لهم، وتدخل ركنا أساسيا من أركان الاختبار الذي يتأدّى عنه انتقال من حال إلى حال، فكلما ذلّلت صعابها سهل على المرء العبور من موقع الانكار إلى موقع الاعتراف، فلا غرابة أن تلازم طه حسين طويلا، وبكرّ السنين صار يتجنّب ذكر الطعام والملبس مركزا على كيفية أخذ العلم من متبوع، وكيفية إعطائه لجمهور غفير من التابعين له، فوقع تحول كامل في موقعه، فقد أصبح معرفة بعد أن كان نكرة، وذلك من نتائج الاعتراف الذي انتزعه.