مثل كل قنوات التلفزيون الرسمية العربية، تبدأ قناة «العراقية» نشراتها الإخبارية بسرد نشاطات رئيس الوزراء وتصريحاته، تليها نشاطات رئيس الجمهورية فرئيس مجلس النواب في تسلسل هرمي هابط إلى لقاءات الوزراء وجولاتهم. لذا كان طريفاً ومثيراً للإهتمام أن تشذّ القناة عن هذا التسلسل قبل بضعة أشهر لتفرد لحدث أوروبي موقعاً متميّزاً. الحدث هو استفتاء الإسكتلنديين على الحصول على استقلالهم والانفصال عن المملكة المتحدة. وبدهي فإن المعلّقين والمراسلين الذين أفردت لهم القناة فضاءها كانوا يبرزون الأضرار التي ستتعرّض لها اسكتلندا في حال استقلالها. هو حدث أوروبي- عراقي إذن. ولا شك في أن القادة الأكراد كانوا على القدر ذاته من الاهتمام بالاستفتاء وربما أكثر. إذ كثيراً ما شاهدت على طاولات مسؤولين أكراد زرتهم طوال العقد الماضي دساتير بلجيكا واتفاق انفصال جنوب السودان عن شماله وغيرها من وثائق تخص بلداناً لم يتح التاريخ والسياسة والاقتصاد للقوميات التي تتكون منها فرصة العيش المشترك. انتهى الاستفتاء الإسكتلندي، كما نعرف، باختيار البقاء ضمن المملكة المتحدة، بفارق بسيط بين الموافقين والمعارضين. ولكن، لا أشك في أن اثنين من العراقيين أياً كان انتماؤهما القومي أو المذهبي سيختلفان على أن غالبية ساحقة من الشعب الكردي ستصوّت لمصلحة الانفصال لو جرى استفتاء كهذا. والانفصال تعبير آيديولوجي يتحايل على تعبير «حق تقرير المصير» وإقامة الشعب الكردي دولته المستقلة لأول مرة في تاريخه. لاجديد في كل ما سبق. الجديد أن فرصة ممارسة الكرد حقهم في تقرير مصيرهم لم تكن أقرب إلى التحقيق يوماً مما هي عليه الآن. والعتيق أن عرب العراق وسياسييه لا زالوا غير مستعدّين لتقبّل هذه الحقيقة فيما يقزّم قادة كردستان طموحهم المشروع بتحويل قضية الاستفتاء على الاستقلال إلى ورقة مساومة مع حكومة بغداد المطالَبة بتقديم إغراءات لهم مقابل التراجع عنه. وهو تراجع يصاحبه تلميح كردستاني بأن إجراءه مسألة وقت، وتصريح بأن حل الخلافات العالقة قد يلعب دوراً في الإبقاء على عراق فيديرالي. مثل هذا الالتباس هو ما يغذّي تسميم الرأي العام الذي ينتشي بقراءة أو سماع أفكار تستحضر مشاعر ترسّخت جذورها في العقل الجمعي. عرب العراق تربّوا منذ تأسيس الدولة على أنهم هم العراق وأن الحقوق والسلطات المتزايدة التي يحصل عليها الأكراد تأتي على حساب العراق، أي على حسابهم. إقليم كردستان هو بالنسبة إليهم إبن عاقّ أو شريك مخادع في أحسن الأحوال أو قيادة خائنة في أسوأها. يجد هذا الضرب من التفكير ترجمته في عبارات باتت رائجة على ألسنة مسؤولين سياسيين وكتاب كثر: «مواقف مشبوهة» من القيادة الكردية، «مؤامرة لتحطيم العراق»، «تفتيت العراق وخلق دويلات». ولأن كردستان صارت عبئاً، بل أداة لتنفيذ المؤامرات، وفق هذا المنطق، أخذنا نسمع ونقرأ مقالات وآراء فحواها «لينفصلوا!»، لا بوصف الأكراد شعباً اختار الاستقلال، بل بوصفهم دمّلة، سرطاناً لابد من استئصاله. هكذا بتنا أمام مفارقة من مفارقات التاريخ الكثيرة. شنّ نظام البعث ما يكاد أن يكون حرب إبادة ضد الشعب الكردي وصوّر الحقوق التي حصل عليها الأكراد خلال فترات الانفراج القليلة لا كمحصّلة لتوازن قوى بين طرفين متصارعين أو لنضال شعب من أجل نيل حقوقه، بل كمنجز، كمكرمة، قدّمتها الثورة لـ «شعبنا الكردي». طوال ذلك العهد كان الحقد الشعبي الكردي موجّهاً نحو النظام الحاكم. ولم يكن هذا مجرّد خطاب منمّق يطلقه السياسيون. إذ يمكن حتى لمن لم يعايش عامة الأكراد تلمّس هذا الأمر من خلال الأفلام الوثائقية وريبورتاجات الأخبار التي يتحدّث فيها أناس بسطاء عمّا تعرّضوا له من مآسٍ، لاعنين صدّام أو البعث أو «علي كيماوي» إبن عم صدام وحاكم كردستان أيام حملة الأنفال الدموية. لم أسمع أحداً قط ألقى على «العرب» أو «العراقيين» مسؤولية ما حصل أو شتمهم. حين كنت أبدي تعاطفي مع موظف أو معلم مدرسة أو عامل مطعم أثناء زياراتي لكردستان أيام التسعينات، كان ثمة تعليق يتكرر: أنتم أيضاً عانيتم الكثير. أما اليوم، وقد باتت الحرب مع بغداد من مخلّفات الماضي وكرّس دستور ما بعد صدّام الطابع الفيديرالي للنظام السياسي العراقي، فليس من الصعب ملاحظة تصاعد مشاعر متبادلة بين عامة العرب وعامة الأكراد: غربة متبادلة، حسد من عرب العراق يقابله شعور بالنفور منهم والتعالي عليهم من جانب الأكراد، مساع مبالغ بها لإبراز الاستقلالية الكردستانية يقابلها حقد متصاعد نابع من الإحساس بالعجز عن إعادة الابن العاق إلى جادة الصواب. لم يقع ضحايا في الاشتباكات التي جرت قبل أيام بين الطلاب العرب والأكراد في جامعة كركوك حول رفع علم كردستان وإنزال العلم العراقي. وتم حظر التظاهرات الواسعة التي انطلقت في السليمانية خصوصاً للمطالبة بخروج العرب الذين أجبرتهم هجمات «داعش» على النزوح إليها. لكن الحكمة تقضي بالاعتراف بأن رفع شعار أخوة العرب والأكراد في وطن واحد، والذي استند إلى أسس واقعية في الماضي، بات ينطوي على نفاق أو مكابرة أو سذاجة. فليس أمام العراقيين اليوم غير خيار أخّوة العرب والأكراد في دولتين جارتين تربط شعبيهما علاقة ود ومصالح مشتركة وثيقة، أو عداء بين بلدين متجاورين يسعى أحدهما إلى تقويض أمن ومصالح جاره. وفي هذا السياق يكتسب النموذج الأسكتلندي الذي ابتدأت به المقال دلالة بالغة الأهمية تتجاوز معركة الاستفتاء ونتائجها. لم يستحضر أنصار الاستقلال عن المملكة المتحدة وأنصار الوحدة التاريخَ في حملاتهم الرامية إلى كسب الجمهور لمصلحتهم، بل كان كل طرف يحاول إقناع الجمهور بالفوائد التي سيجنيها إن اتّبع الطريق الذي يدعو إليه. لم يستنجد أحد بتاريخ وحدة أمّتين عمره 307 سنوات لإثارة عواطف الناخبين لأنه كان مدركاً أن استحضار التاريخ لتقرير أمر الواقع والمستقبل لن يثير لدى المتلقّي غير الشفقة في أحسن الأحوال والتسفيه والإزدراء في أسوئها. إن كان الأمر هكذا في حالة اتحاد بُني على أسس طوعية قبل ثلاثة قرون، فإن استحضار التاريخ في الحالة العراقية لن يكون غير حجّة إضافية لمصلحة الاستقلال. قد يبدو هذا الاستنتاج متناقضاً مع بحثي النظري الذي حاول أن يبين أن ثمة أسساً اجتماعية واقتصادية ساعدت على تكوين العراق الحديث في شكله القائم، وعلى هذه الأسس ارتكزت المصالح السياسية لهذه الدولة الاستعمارية أو تلك. عشيّة تشكل الدولة العراقية الحديثة قبل قرن كانت ثمة عوامل ساعدت، ولم تحتّم، توحّد هذه البقعة الجغرافية في بلد واحد. كان رأيي، ولايزال، أن التعكّز على الاستعمار لتفسير تكوّن الدول وانحلالها ليس غير ضرب من الشعبوية السياسية. لكن من حق الأكراد اليوم مواجهة الشعبوية العروبية المتهمة للاستعمار بتشجيعهم على «تحطيم العراق» التذكير بأن هذا الاستعمار، إن صحّ أن له هذه القدرة الخرافية، أنتج للعرب اثنتين وعشرين دولة مستقلة فيما أحال الأكراد إلى أكبر أمة معاصرة بلا دولة. لكن الواقع والمستقبل يبقيان أهم من التاريخ. تتغير الوقائع المجتمعية والاقتصادية والتقنية وتتغير معها دوافع البشر وتصوّراتهم عن مصائرهم والبنى السياسية التي يسعون إلى قيامها. وليس الكردي في حاجة إلى شعبوية تستفزّ مشاعر المهانة التي عاشها في ظل الدولة العراقية. بنية النظام السياسي الكردستاني القائمة ومؤسساته هي بنى ومؤسسات دولة مستقلة لا إقليم في دولة فيديرالية. لكردستان جيشها وممثّلياتها في دول العالم وسياساتها الخارجية والداخلية المختلفة عن سياسات بغداد. وما ظل الجبن السياسي عاجزاً عن مصارحة الرأي العام بأن ثمة جارين يتفاوضان على أسس الانفصال الودّي فسيظل العربي يشعر بالحقد على أكراد يتطاولون على الدولة ويستنزفونها، وسيظل الكردي يشعر بأنه أمام خصم انتهك حقوقه وعليه فرض شروطه اليوم. ولو جرت المفاوضات على أساس أن أربيل تمثّل دولة في طور التكوين، فإن كثيراً من المشاكل القائمة اليوم لن تكون مشاكل أصلاً. عند ذاك لن تدور محادثات حول توصيف البيشمركة ولمن تتبع دستورياً، بل ستُعتبر جيشاً لدولة جارة. ولن تدور مفاوضات معقّدة حول تقاسم عوائد النفط وملكية الآبار، فنفط كردستان لكردستان ونفط الآبار المشتركة يمكن الاتفاق حول تقسيم عوائدهما مثلما جرى بين العراق والكويت. بدهي أن ثمة قضايا شديدة الخطورة ستظل قائمة أهمها عائدية ما يسمّى المناطق المتنازع عليها وفي مقدّمها كركوك. وبدهي أيضاً أن دولة كردستان ستواجه مشاكل تتجاوز بكثير ما واجهته دول تكونت حديثاً، ليس أقلها الانقسام الداخلي وما سيترتب عليه من تحول الدولة إلى ساحة صراع إقليمي. لكن هذه القضايا تتطلّب معالجات أكثر تفصيلاً. الخطر الوجودي الذي يواجهه العراق لا يكمن في سرطان يجب استئصاله اسمه كردستان، بل في أنه توأم سيامي أخذ التصاق طرفيه يسمّم دورتهما الدموية. إن نجحت عملية الفصل بينهما سيتذكّر كل من التوأمين ألم عملية الفصل لكنهما سيعيشان في ما بعد كأخوين. * كاتب وباحث عراقي