الحديث عن الأزمات المالية مسألة غاية في التعقيد، ولكنه في الوقت ذاته مسألة في غاية الأهمية، خصوصا ما يمكن أن يطلق عليه اسم «الأزمات التصحيحية». وقد عرف العالم أزمات «كارثية» مختلفة؛ ففي حقبة الثمانينات من القرن الميلادي الماضي حدثت قضايا السندات غير المرغوب فيها، التي تورطت فيها بنوك عملاقة، وكان أبطالها مايكل ميلكين وإيفان بويسكي وشركة «دريكسل لامبرت».. وبعدها حدثت مجموعة من الأحداث المالية العظيمة، فانهارت منظومة «مصرف الاعتماد والتجارة» ذي الشبكة الممتدة عالميا، وعوقب من عوقب، وبقيت أحداثه وتفاصيله «غامضة جدا»، نظرا لجرأة البنك ومحاولته الخروج عن مقاصة الدولار الموجودة في أميركا، واعتماد الصرف الدولاري دون مرجعيته في أميركا. وبعدها عرف العالم الغربي مجموعة من السقطات؛ مثل كارثة شركة «وورلدكوم» للاتصالات، وأزمة بنوك التوفير والإقراض المتعلقة بتمويل العقار والسكن في أميركا، وسقوط شركة «انرون» للطاقة عبر سلسلة من التجاوزات المالية الهائلة لفريقها التنفيذي، ونالوا العقوبة اللازمة. وهناك فضيحة مجموعة «مادوف» المالية والنصب العظيم الذي اتهمت به، وطبعا الكارثة المالية الأخيرة التي انطلقت من تدهور وانكشاف المصرف الاستثماري الأميركي «ليمان براذرز».. كل هذه الفصول الدرامية في تاريخ المآسي المالية التي عرف عنها حصول النصب والاحتيال والتجاوزات، وتواطأ فيها من تواطأ، سواء أكان من التنفيذيين أو المراقبين الماليين المستقلين أو أعضاء مجالس إدارة، أوضحت، بالتالي، وجود العجز والخلل في كثير من الأنظمة والتشريعات والسياسات، مما استدعى تطويرا وتعديلا وتفعيلا حقيقيا لمواجهة ما يمكن أن يطلق عليه اسم «جرائم الياقة البيضاء». والعالم العربي عرف هو الآخر مجموعة لا بأس بها مطلقا من الهزات والأزمات المالية العاصفة جدا، لعل أشهرها ما كان حصل في الكويت وعرف لاحقا بأزمة «سوق المناخ»، وتعرضت وقتها مجموعة كبيرة جدا من البنوك والشركات لإفلاسات بسبب مديونيات عظيمة من البنوك للمضاربة على الأسهم والعقار بشكل محموم، مما اضطر الدولة لأن تتدخل لإغاثة ونجدة من تورط ودمرت ثروته، ولكن واقع الأمر أن هذه المسألة كشفت للمسؤولين عن وجود ثغرات هائلة في النظام المالي الذي عملت الكويت لاحقا على تحسينه، والاستفادة من الأخطاء القديمة. ومصر عرفت هي الأخرى كارثة انهيار شركات توظيف الأموال التي روجت نفسها على أنها بنوك إسلامية، واستغلت عواطف الناس، وأصبحت كالفقاعة، حتى انهارت وتبخرت معها أحلام الناس ومدخراتهم. ولبنان، الذي كان دوما يعرف بأنه مركز الصناعة المصرفية التقليدية في الشرق الأوسط، عرف هو الآخر كارثة انهيار بنك «إنترا» الذي كان يوصف وقتها بالإمبراطورية، وكان يقف خلفه المصرفي الفلسطيني يوسف بيدس. وتعرض المؤرخ الاقتصادي اللبناني الكندي المميز كمال ديب لهذا الموضوع أخيرا في كتاب ممتع صادر عن «دار النهار» بعنوان: «يوسف بيدس.. إمبراطورية (إنترا) وحيتان المال في لبنان»، وفند فيه أسباب سقوط البنك والكارثة التي حلت بالقطاع المصرفي من بعده، وإعادة بناء الثقة التي اهتزت. والسعودية، الاقتصاد الأكبر في الشرق الأوسط، عرفت هي الأخرى كوارث من نوع «سقوط» بنوك، مثل «بنك القاهرة السعودي» و«السعودي التجاري المتحد»، الذي «سمح» لبنوك أكبر منها بأن تستحوذ عليها حماية لحقوق المودعين، وكذلك شركة «الاتصال المتقدمة» التي أدت أزمة مودعيها مع إدارتها إلى تدخل الدولة وحماية المودعين بضمان أموالهم. والآن هناك مشكلة شركتي «موبايلي» و«المعجل» التي نأمل أن تكون الشفافية فيهما واضحة، حتى تتم الاستفادة الحقيقية مما حصل؛ المشكلات تحدث، فهذه مسألة طبيعية.. يبقى أسلوب التعامل معها هو الأهم.