الجماهير اليوم - فضلا عن المهتمين من المتدينين - أصبحوا يعرفون أن أغلبية علماء الأمة في القديم وفي الحديث يقولون بجواز كشف المرأة لوجهها، بل وبجواز الزينة المتعلقة بالوجه والكفين من كحل وخواتم وأساور وخضاب، وأن هذا الجواز ليس استثناء (بأي صيغ الاستثناء)، بل هو خيار لها في كل الأحوال يُدرك الجميعُ بعد كل هذا الصراع الفكري والواقعي مع الإرهاب، الإرهاب كتنظير والإرهاب كممارسة، أن الإرهاب لا ينشأ من فراغ، ولا ينمو في البيئات التصالحية الطاردة لخطابات الكراهية، بل لا بد له من حاضنة فكرية/ اجتماعية، كبُرت أو صغُرت، حتى ولو كانت مجرد جزيرة صغيرة، ذات طابع انتمائي انعزالي؛ في بحر من الانفتاح والتسامح. ومن هنا، فكل تشدد، وكل تزمت، وكل انغلاق، وكل إلغاء للمتنوع الفكري والاجتماعي؛ إنما يضع اللبنات الأولى لصرح الإرهاب، الذي قد يتعملق متجذرا إلى أن يصبح مثل جبل الجليد الذي لا نرى – رأي عين! - إلا قمته المحدودة، القمة الطافية على السطح، بينما بقية الجبل تتمدد متجذرة في الأعماق. عندما يتوجه الوعي العام من خلال رموزه إلى قمع الاختلاف الفكري/ الفقهي على نحو تشنّجي استعدائي اقصائي في مسألة هنا او مسألة هناك، فالقضية لم تعد محصورة في المسألة الجزئية موضوع الجدل، وإنما تتجاوزها إلى الأنساق العامة للتفكير المجتمعي. وبهذا لا تصبح المسألة موضوع الجدل – مهما كانت أهميتها في ذاتها، أو في أثرها الاجتماعي المباشر - أكثر من مثال حي ساخن، يُراد به أن يتضح المقال لمن لا يستطيع استبصار أبعاد الواقعة الإقصائية العامة إلا من خلال المثال المحدود. خلال الأسبوعين الماضيين كان الرأي العام مشغولا إلى أقصى حد بالخطوة الجريئة التي أقدم عليها الشيخ أحمد الغامدي، خاصة بعد أن خرج بمسألة الاختلاف الفقهي (في مسألة كشف وجه المرأة) من التنظير إلى حيّز التطبيق. انشغل الرأي العام إلى درجة أن الأستاذ عبدالرحمن الراشد أكد أنه اشغال طغى على انشغال الناس بانهيار أسعار النفط، وانهيار سوق الأسهم، وخطر داعش، بل وأخبار الرياضة المحلية، وهي التي من المتوقع – والطبيعي – أن تكون موضوع الاهتمام الأول. لقد انقسم المجتمع إلى فريقين متنازعين أشد ما يكون النزاع، واشترك في النزاع كثير من المفكرين والفقهاء والإعلاميين، وبقي سائر الناس مشدوهين، مشدودين إلى مسارات النزاع، وكأنهم يرقبون نتائج حرب حاسمة يتعلق بها تحديد المصير. قيل، وسيقال الكثير حول هذه المسألة النظرية، وحول هذه الواقعة التطبيقية، حيث إن القول فيها متشعب ومتعدد المنازع. ولهذا سأختصر رؤيتي في النقاط التالية المحددة؛ حتى لا يتشتت ذهن القارئ، ويشتغل بهوامش القضية عن متونها الأساسية التي هي – في تصوري – أهم ما يجب أن يشتغل عليه الوعي العام، همّا واهتماما، موافقة واختلافا: أولا: مسألة جواز، أو عدم جواز كشف المرأة لوجهها، هي مسألة تجاوزها النقاش من الناحية الفقهية الخالصة. لم يعد النقاش فيها مجديا، ولن يكون مجديا، إذ لن يأتي أي فريق بجديد. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإن الجماهير اليوم - فضلا عن المهتمين من المتدينين - أصبحوا يعرفون أن أغلبية علماء الأمة في القديم وفي الحديث يقولون بجواز كشف المرأة لوجهها، بل وبجواز الزينة المتعلقة بالوجه والكفين من كحل وخواتم وأساور وخضاب، وأن هذا الجواز ليس استثناء (بأي صيغ الاستثناء)، بل هو خيار لها في كل الأحوال. أصبح الجميع يعرف أن القول بالجواز هو رأي جماهير العلماء، ولن يستطيع أحد إحراق آلاف الكتب، ولا تفريغ عقول آلاف العلماء، ولا محو ذاكرة الجماهير؛ حتى لو أراد! اتضحت الأمور للجميع؛ لأن كلا الفريقين حشد الأقوال التي تؤيد رأيه، واتضح للجميع حجم كل رأي من خلال قياسه بمستوى تأييد العلماء له في القديم والحديث. أصبح واضحا لكل من يقرأ ويسمع (حتى للأميين!) أن ثلاثة من المذاهب الأربعة (الحنفية والمالكية والشافعية)، بل ورواية عن أحمد، تؤكد جواز الكشف (يعني بتسهيم الحسبة: 7 من 8 لصالح القائلين بالجواز). وبالتالي، لم يعد من الممكن التكتّم على هذا الرأي السائد فقهيا، والذي تتمثله - تنظيرا وتطبيقا - الأغلبية الساحقة من المسلمين اليوم. مهما فعل، ومهما شغب، ومهما استدل، ومهما راوغ، ومهما دلّس، ومهما شنّع واتهم؛ فلن يستطيع التيار المتشدد طمس هذه الحقيقية التي أصبحت أوضح من شمس النهار الساطعة في صيف حارق. بل لم، ولن يستطيع هذا التيار الانغلاقي أن ينفي أن خياره في وجوب التغطية هو خيار القلة القليلة النادرة من علماء الأمة اليوم، ولا أن التطبيق العملي من نساء المسلمين اليوم يكاد يجعل نسبة نفاذ هذا الرأي لا تتجاوز 05%، أي أقل من 1%. فلو أنك قدّرت نسبة النساء الملتزمات بفتوى تغطية الوجه، قياسا إلى عدد المسلمين المقدر بمليار وأربع مئة مليون، لم تتجاوز النسبة بأي حال 1%، هذا إذا افترضنا أن الملتزمات بالتغطية يلتزمن عن قناعة، وليس عن ضغط اجتماعي. فكيف يستطيع المتشددون طمس واقع فقهي يتمدد - تطبيقيا - على اختيار عملي ل 99% من المسلمين؟! ثانيا: أدرك المتشددون الآن، وبعد رواج كثير من الدراسات حول هذه المسألة على مستوى جماهيري واسع، أنهم في موقف ضعف شديد، بل في حالة تقترب من درجة الافتضاح. ومن هنا، بدأوا يتوسلون بالخلاف على نحو مغالط. أي أنهم بدأوا يُحاولون إظهار القائلين بالجواز وكأنهم يفرضون رأيهم فرضا لمجرد نضالهم ليصبح قولهم مشروعا في الواقع، أو كأنهم (= القائلين بجواز الكشف) – بعد اتضاح قوة رأيهم للجميع – يُصادرون حرية الرأي الآخر(= القائل بوجوب التغطية)، من خلال اتهامه بالتشدد، أو تهميشه كرأي في التراث الفقهي المعتبر في المدرسة السنية تحديدا. وللتوضيح، فالقائلون بالجواز لا ينفون – رغم اعتقادهم بصوابية رأيهم، وتقريرهم لواقع أن أغلبية علماء الأمة قديما وحديثا معهم - حق الرأي الآخر في الحضور، ولا يصمونه بالتشدد ابتداء. فالعالم/ الشيخ الذي يفتي بوجوب تغطية الوجه، دون أن يتنكر لأصل الخلاف، أو يغالط في حجمه، ليس شيخا متشددا في نظر القائلين بالجواز؛ حتى وإن اختار الرأي الأصعب أو الأضيق أو الأقل أو الأضعف، فهو حر في اجتهاده، ولكن يجب ألا يُصادر حرية الآخرين. هنا يبدو أن ثمة مشكلة أو استشكالا. إذا كان الذي يُفتي بوجوب تغطية الوجه ليس متشددا في نظرنا، فمن هم المتشددون الذين نشير إليهم عند تناول هذه المسألة المختلف فيها؟ المتشددون هم الذين يستخفون بالخلاف لصالح رؤيتهم في وجوب التغطية، أو يعترفون بجواز الكشف نظريا؛ كواقع فقهي موجود لا يستطيعون إنكاره، ولكنهم – في الوقت نفسه – يُهاجمون من يأخذ بالجواز تنظيرا أو تطبيقا، أو تنظيرا وتطبيقا، ويرونه قد ارتكب محظورا شرعيا يستوجب الإنكار عليه، ومُطالبته بالرجوع إلى جادة الصواب! إن الذين يُفتون بوجب التغطية، ولكنهم يقولون: "هذا ما نفتي به؛ مع أن هناك فتاوى معتبرة تُخالف رأينا، ويحق لأي أحد الأخذ بها" ، ليسوا متشددين. وهم يتفقون – من حيث الموضوعية العلمية، ومن حيث المبدأ التسامحي – مع القائلين بجواز الكشف، أولئك الذين يقولون: "هذا ما نُفتي به؛ مع أن هناك من يقول بوجوب التغطية، ويحق لأي أحد الأخذ برأيه". فهؤلاء وهؤلاء لا يتنكرون للحقيقة العلمية الثابتة بالاستقراء، ولا يُضلّلون الرأي الآخر، ولا يُنادون بضرورة إجبار أحد على اتباع آرائهم، لا تلميحا ولا تصريحا. ثالثا: يُغالط كثيرون – عن جهل، أو عن تعصب، أو عن حقد أعمى، أو عن حماقة متأصلة، – في قراءة ما قاله وما فعله الشيخ أحمد الغامدي. إنهم يُحاولون إظهار الشيخ الغامدي وكأنه يدعو المرأة إلى كشف وجهها، أي كأنه يحضها على الكشف، وينكر عليها التغطية. بينما كل ما قاله الغامدي (في تنظيراته السابقة)، وكل ما فعله تطبيقا (بخروجه مع زوجته بالحجاب الشرعي)، هو مجرد إشهار للاختلاف، وإشعار بالجواز. انتبهوا جيدا لأصل النزاع الذي يُحاول المتشددون تعميته عليكم؛ ليظهروا المسألة في صورة مُغايرة تماما لحقيقتها. تأكدوا تماما أن الشيخ أحمد الغامدي لا يقول: أيتها المرأة، اكشفي عن وجهك، ولكنه يقول: يجوز لك أيتها المرأة أن تكشفي عن وجهك. هو لم يقل: غطاء الوجه ليس جائزا، ولكنه قال: غطاء الوجه ليس واجبا. هو لم يقل: مَنْ تُغطي وجهها فهي آثمة، ولكنه قال: مَنْ تكشف وجهها فهي غير آثمة. فرق كبير بين هذا وذاك. إنها مجرد دعوة للتسامح مع الكشف؛ حتى لا نقع في تأثيم أكثر من 99% من نساء المسلمين، وليست – بأي حال - دعوة للكشف. إن هناك فرقا كبيرا بين من يدعو للتسامح مع الكشف، وبين من يدعو للكشف، فرق كبير جدا، ولكن جماهير العوام، بل وبعض من يدعي شيئا من العلم، يقعون فريسة احتيال المتشددين الذي يُظهرون الغامدي ومن أيده على أنهم يدعون المرأة إلى الكشف عن وجهها، بل وربما زادوا في ذلك - مستثمرين جهل كثير من الناس وعدم قدرتهم فحص الأقوال –؛ فزعموا أن الغامدي يدعو للتبرج أو لاتباع الهوى، خاصة وأن كثيرا من العوام يفهمون (التبرّج) على أنه كشف الوجه، وبالتالي يحكمون على أكثر من 99% من نساء المسلمين أنهن متبرجات. بينما الغامدي يؤكد - بإلحاح شديد - على أن الكشف مع الالتزام بالحجاب الشرعي ليس تبرجا، وأن الصورة التي ظهرت بها زوجته هي كامل الحجاب الشرعي الواجب، وهو الحجاب الذي تلبسه النساء المسلمات – الملتزمات جدا - على امتداد العالم الإسلامي. رابعا: في اعتقادي أن الخطوة التطبيقية التي أقدم عليها الشيخ أحمد الغامدي هي خطوة حاسمة على مستوى صمود – أو عدم صمود - المواضعات الاجتماعية في المستقبل القريب. انتقاله من التنظير إلى التطبيق بخطوة في غاية الشجاعة، جعلنا نقف جميعا على الخط الفاصل بين زمنين/ مرحلتين، مرحلة ما قبل ظهور الغامدي، ومرحلة ما بعد ظهوره مع زوجته في أوسع القنوات الفضائية انتشارا. أبدا؛ لن يكون الزمن اللاحق كالزمن السابق، لن يكون الانغلاق المتزمت الذي يُصادر خيارات الآخرين هو خيار المستقبل؛ مهما حاول المتطرفون أن يُعيدوا عقارب الساعة إلى الوراء. طبعا، هذا لا يعني انفصال المرحلتين، بقدر ما يعني تمايزهما، خاصة وأن خطوة الغامدي لم تكن خطوة مبتورة من سياقها، وإنما كانت ثمرة ناضجة لتحولات سابقة على مستوى الخطاب وعلى مستوى التطبيق. فمنذ خمسة عشر عاما تقريبا ومسألة غطاء الوجه هي محور حوارات ساخنة في الحقلين: الفقهي والثقافي، حوارات لا تهدأ إلا ريثما تنبعث أشد ضراوة. وكذلك الأمر في التطبيقات العملية، إذ كانت - ولا تزال - تأخذ طريقها إلى الواقع بوتيرة متصاعدة يمكن ملاحظتها بسهولة، فالكاشفات عن أوجههن، وخاصة في المدن الكبرى لدينا، تضاعفت أعدادهن في السنوات العشر الماضية، إلى أن أصبح الكشف ليس محل استغراب أحد، إلا غُلاة الغلاة من المتشددين. من جهة أخرى، فإن ما فعله الغامدي، وإن كان ثمرة للتحولات السابقة، إلا أنه تدشين لمرحلة لاحقة، إذ – بفضل هذه الخطوة التطبيقية وتداعياتها – سيتحلل التزمت الاجتماعي المشرعن بخطاب ديني متشدد، ليس في قضايا المرأة فحسب، وإنما في كل مسارات الحراك الاجتماعي. فهذه المسألة (مسألة كشف الوجه) ليست إلا جزئية من كليات اجتماعية أشمل، وفي المستقبل القريب ستتحلل كل المكونات العامة لهذه الكليات بفعل تداعيات هذه الخطوة الجزئية؛ لأنها خطوة تماست مع أكثر المسائل حساسية في وعي المجتمعات التقليدية، فالمرأة في المجتمعات المتزمتة هي أقنوم المحرمات. وبهذا، فهي مسألة تكشف عما هو أكبر منها - بالنظر إلى بقية المسائل التفصيلية الأخرى -، كما تكشف - من جهة أخرى – عن طبيعة العقل الفقهي السائد، وعن مستوى الوعي الاجتماعي ومدى تقبله للخلاف، الذي هو في النهاية يتفاعل – جدليا - مع العقل الفقهي.