عرف المشهد الإعلامي التونسي تطوراً، كمياً ونوعياً، كبيراً، منذ الانتفاضة الشعبية التي أنهت حكم الرئيس السابق زين العابدين بن علي قبل أربع سنوات، وانتقلت البلاد من عهد الخطاب الواحد والإعلام الدعائي للنظام السابق إلى مشهد إعلامي تعددي واكب التحولات السياسية والانتخابية طيلة الفترة الانتقالية. واستقبل القطاع الإعلامي قبل أيام تقرير منظمة «مراسلون بلا حدود» بقلق شديد، إذ حلّت تونس في المرتبة 133 لناحية حرية الصحافة من ضمن 180 دولة حول العالم، وعلى رغم مرور أربع سنوات على الثورة إلا أن ترتيب تونس لم يتقدم بنسب كبيرة وهو ما استغربه إعلاميون تونسيون. وكان الإنجاز الأول الذي أجمعت عليه كل الأطراف المتداخلة في الشأن الإعلامي هو إلغاء وزارة الإعلام والاتصال التي كانت تحتكر الإعلام العمومي والخاص، وتعويضها بهيئة عليا مستقلة للإعلام يشارك فيها الصحافيون وأصحاب المؤسسات وقطاعات أخرى. وتأسست قنوات وإذاعات من مختلف التوجهات السياسية بعد الانفتاح الإعلامي بلغ عددها 39 قناة تلفزيونية وأكثر من 50 إذاعة محلية وجهوية وجمعياتية، إلا أن المشهد السمعي البصري حالياً لا يحتوي إلا على 12 قناة تلفزيونية بينها 6 قنوات هي الأكثر مشاهدة في البلاد. ويتكون المشهد الإعلامي التونسي من أكثر من 200 عنوان صحافي موزعة بين صحف يومية وأخرى أسبوعية وشهرية إلى جانب عشرات المحطات الإذاعية و15 قناة تلفزيونية بين الخاصة والعمومية والفضائية، التي تبث على مواقع الإنترنت. وكان «التتويج الثاني» للإعلام التونسي، بعد إلغاء وزارة الإعلام، أثناء المصادقة على دستور البلاد الجديد في كانون الثاني (يناير) 2014، النص صراحة حول رفع يد الدولة عن الإعلام وتكليف هيئة دستورية عمومية مستقلة مهمة تعديل القطاع السمعي البصري. كما تولت «الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي البصري» (هيئة مستقلة) مهمة تعديل القطاع، وأشرفت على إسناد تراخيص القنوات والإذاعات وإسناد تراخيص البث الفضائي، إضافة إلى تقويمها للمنتوج الإعلامي وتسليط عقوبات على وسائل الإعلام المخالفة للقانون والتي تبث خطاب الفتنة والكراهية والعنف. وتمكنت هذه الهيئة من تنظيم القطاع بعد عام من الفوضى الإعلامية التي انتشرت فيه إذاعات وقنوات تلفزيونية من دون ترخيص من الدولة، وأسندت تأشيرات البث لمؤسسات مقربة من الإسلاميين (المتوسط والزيتونة وإذاعة الصراحة) ومؤسسات محسوبة على العلمانيين مثل الحوار التونسي وهو ما أحدث توازناً في المشهد الإعلامي التونسي بعد الثورة. وعلى رغم الاستقلالية والتعددية اللتين تمتع بهما الإعلام السمعي البصري التونسي، وما تضمنه الدستور التونسي الجديد من مبادئ تنص على استقلالية السلطة الرابعة، إلا أن ذلك لم يمنع تدخل أطراف من خارج القطاع في الشأن الإعلامي.فقد اتخذ عدد من رجال الأعمال ورجال السياسة من بعض القنوات منبراً لتمرير خطابهم السياسي والاقتصادي، وانقسم جزء من الإعلام بين توجهات سياسية حداثية ومحافظة وبرزت قنوات دينية. في المقابل عرف الإعلام العمومي (القناتان الوطنية الأولى والوطنية الثانية) تطوراً في المحتوى بعد أن كان صوت الحزب الواحد هو المسيطر، وفتح أبوابه على توجهات سياسية من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين بما في ذلك رموز سلفية جهادية كانت ممنوعة من الظهور في الشارع. لكنّ هذا الانفتاح كانت له تأثيرات سلبية، فبعض وسائل الإعلام ساهمت في نشر خطاب الكراهية والعنف وتقسيم التونسيين على أسس دينية وفكرية وحتى مناطقية. وأظهرت الحملة الانتخابية الرئاسية والبرلمانية نوعاً من الانحياز لبعض وسائل الإعلام لحزب أو مرشح بعينه، وتمثل قناة «نسمة» الخاصة نموذجاً لهذا الانحياز، إذ سخرت مجهوداتها الإعلامية والاتصالية لخدمة حزب «نداء تونس» العلماني ومرشحه الرئاسي الباجي قائد السبسي. وتكمن الخطورة هنا في أن صاحب هذه القناة يملك شركة اتصال سياسي، ما جعله يستعمل القناة لخدمة المرشحين الذين تتعامل معهم شركته، إضافة إلى انحيازه الواضح ضد أحزاب مثل «النهضة» والرئيس المنتهية ولايته المنصف المرزوقي. ويمكن أن يطلع المراقبون على مدى حيادية الإعلام بخاصة منه الإعلام الجماهيري، فقناتا «المتوسط» و «الزيتونة» لا تخفيان انحيازهما لحركة «النهضة» الإسلامية والرئيس المرزوقي، فيما يشتكي أنصار «النهضة» والمرزوقي من الانتقادات الشديدة التي توجهها لهم قنوات «نسمة» و «الحوار التونسي» وإذاعات «موزاييك» و «شمس»، وكلها وسائل إعلام ذات تأثير كبير. وعلى رغم الطفرة الإعلامية والتنوع الذي طرأ على المشهد التونسي، إلا أن تساؤلات كبيرة مازالت تطرح بقوة بخاصة بعد تمكن رجال أعمال وسياسيين من السيطرة على وسائل إعلام جماهيرية وهو ما يعزز مخاوف بعض الأطراف من إمكان تراجع مكاسب حرية الإعلام واستقلاليته.