عاشت بريطانيا طوال عام 2014 على وقع سلسلة محاكمات شملت متهمين بالاستغلال الجنسي، وكانت سمتها الأساسية أن القائمين بها مسنون قاموا بأفعالهم المزعومة في ستينات القرن الماضي وسبعيناته وثمانيناته. وبدت هذه المحاكمات وفي شكل واضح وكأنها تمثّل «تكفيراً» عن تقصير السلطات في التصدّي لظاهرة استغلال «أصحاب النفوذ» في المجتمع لسلطاتهم، من أجل إغواء أطفال ومراهقات واستغلالهم على مدى عقود. وفي موازاة محاكمة عشرات الشبان من أصول مسلمة (شبكات تضم غالباً باكستانيين وصوماليين) بتهم الاغتصاب والاعتداء الجنسي و»المتاجرة» بقاصرات من الفتيات البيض، شهدت قاعات المحاكم في بريطانيا سلسلة محاكمات فردية لأشخاص بلغوا سنوات عمرهم الأخيرة بتهم التورط في مزاعم استغلال جنسي لصغار السن. وإذا كانت المحاكمات الأولى ذات طابع إثني (ملوّنون يسيئون استغلال فتيات بيض جنسياً)، فإن النوع الثاني من المحاكمات استهدف تحديداً «أصحاب النفوذ» في المجتمع. وتشمل هذه الصفة أولئك الذين يملكون أموالاً تسمح لهم بالقيام بما يريدون، وشخصيات بارزة في عالم الفن كانت تستغل موقعها وشهرتها لجذب فتيات مراهقات والاعتداء عليهن. وجاءت محاكمة المسنين على خلفية التقصير الواضح من السلطات في محاكمة الإعلامي المشهور جيمي سافيل، الذي توفي عام 2009 بعد عقود من تباهيه بما كان يفعل بالفتيات مستغلاً وضعه كأحد أشهر وجوه البرامج الفنية في محطة «بي بي سي» (جزء من عمليات استغلال الفتيات كان يتم في استديوات تصوير البرامج). وبعد وفاته، أعلنت الشرطة إن 450 امرأة تعرضّن لاعتداء جنسي على أيدي سافيل. «عملية يويتري» وانطلاقاً من هذا التقصير، بدأ الادعاء فتح ملفات شخصيات فنية أخرى كانت على علاقة بسافيل ويُعرف عنها أيضاً قيامها بتصرفات ماجنة مثله، خصوصاً تلك التي تتعلق بفتيات مراهقات. وتندرج هذه الملفات التي يحقق فيها حالياً في إطار «عملية يويتري» التي تقول الشرطة إنها تضم ما يمكن أن يصل إلى 400 خيط تحقيق منفصل بما في ذلك ما لا يقل عن 200 ضحية، تتعلق بجرائم استغلال جنسي تعود إلى سنوات طويلة مضت. كان راي تاريت (73 سنة) الـ«دي جاي» السابق وصديق سافيل أبرز الذين حوكموا خلال عام 2014، إذ اتهم باستغلال وضعه الفني كمقدّم للبرنامج الإذاعي المشهور»كارولين دي جي» كي يجذب فتيات مراهقات ويعتدي عليهن جنسياً. وشملت اتهامات الاستغلال الاعتداء على 11 فتاة كن في سن تتراوح بين 13 و15 سنة، عندما أعتدي عليهن في حقبتي الستينات والسبعينات. وقد دانه القضاء على هذه الجرائم وأمر بسجنه 25 سنة، أي أنه سيقضي بقية عمره وراء القضبان، كما قال القاضي. ومن بين الذين يحاكمون أيضاً، غاري غليتر نجم الـ«بوب» السابق المتهم بالاعتداء على 8 فتيات صغيرات خلال حقبة السبعينات. كما أوقفت الشرطة الكوميدي المشهور فريدي ستار الذي قرر الادعاء بعد توقيفه عدم الذهاب إلى مرحلة المحاكمة، ربما لعدم تأكده من صلابة الاتهامات التاريخية الموجّهة ضده. كما أوقفت الشرطة ديفيد لي ترافيس مقدّم البرامج التلفزيونية (دي جي أيضاً). وحوكم بتهمة التورط بـ12 اعتداء جنسياً حصلت قبل عقود وتمت إدانته بواحدة منها فقط، فعوقب بالسجن 3 أشهر (مجمّدة لسنتين). وكان رولف هاريس المغني ومقدّم البرامج التلفزيوني المعروف، أحد أبرز الوجوه التي مثلت أمام المحاكمة خلال 2014 بتهم الاستغلال الجنسي التــاريخي. وقـــد وجهت له اتهامات بالاعتداء على 16 فتاة (بين 13 و19 سنة)، ودين بها، علماً أن ممثلة الادعاء في القضية ساشا واس، قالت للمحكمة: «السيد هاريس كان مشهوراً جداً، نافذاً جداً، ووضعه جعل منه شخصاً لا يمكن المساس به». وهو يقضي حالياً عقوبة السجن خمس سنوات وتسعة أشهر. وفي الخريف الماضي، أقر كريس دانينغ الـ«دي جي» السابق في الـــ«بي بي سي1» بالاعتداء على 26 صبياً، أصغرهم في سن التاسعة (بين الأعوام 1967 و1987)، وصدر بحقه حكم بالسجن 13 سنة. ومن بين الذين شملتهم المحاكمات المقدّم السابق لبرامج إذاعية وتلفزيونية في «بي بي سي» ستيورات هول (مواليد عام 1929) الذي حوكم على جرائم جنسية يعود تاريخها إلى ما بين الأعوام 1967 و1986، شملت في مجموعها 13 فتاة تتراوح أعمارهن بين 9 سنوات و17 سنة. وحكم عليه بالسجن 15 شهراً فقط، لكن زيد عليها 30 شهراً أخرى بسبب الضجة التي رافقت الحكم الأول، الذي اعتبره مدافعون عن الضحايا مخففاً جداً. أركان «الإستابليشمنت» وإذا كانت هذه المحاكمات الجنسية التاريخية لا تكفي، فإن الشرطة تحقق حالياً في ملف قد يهدد أركان «الإستابليشمنت» البريطانية، إذ أنه يطاول مؤسسة صنع القرار. فقد أعلنت الشرطة أخيراً أنها بالفعل تملك شاهداً على قتل ثلاثة أطفال في ثمانينات القرن الماضي تمّ التخلص منهم، بعد الاعتداء عليهم، على أيدي شبكة نافذة تضم مسؤولين في الحكومة والاستخبارات ودوائر القصر الملكي. وكـــان ملـــف هذه الجرائم والاعتداءات الجنسية التي يقـــوم بها كبار مسؤولي الدولة موجوداً منذ سنــــوات لدى السلطات المعنية، لكنه «اختفى» تماماً ولم يُعثــــر له على أثر. وتحاول الشرطة حالياً إعادة جمــــع ما كان يحوي من معلومات ومزاعم، ربما يكون صداها أكبر بكثير من صدى ما قام به جيمي سافيل. فالأخير قام باعتداءات جنسية، بينما يتضمّن الملف الجديد اعتداءات جنسية… وعمليات قتل مزعومة.