بقلم : سعد عبدالله المهدي المكان: مصر – حلبة سباق الخيل الوقت: في خلافة عمر المشهد: الحلبة مكتظّة بالجماهير التي امتلأ بها المكان لمشاهدة سباق الخيل بين أحد أبناء الشعب المصريّ وبين ابن الأمير. ابتدأ السباق واشتدّت الخيل في العدْو, وفاز بالسباق فرس المصريّ، لم يحتمل ابن الأمير مرأى ذلك العامّي وهو منتشٍ بانتصاره عليه أمام الجموع فرفع عصاه عليه وضربه بها. فوجئ المصريّ بردّة فعل ابن الأمير وهدّده بأنه سيشكوه, فردّ عليه: أعلى ما في خيلك اركبه جهّز المصريّ راحلته وزاده وسافر بصحبة والده نحو المدينة المنوّرة، وبعد أيّام طويلة من الترحال وصل. فوْر وصوله يمّم المصري وجهه شطر المسجد النبوي للقاء الخليفة عمر بن الخطاب، عندما وصل استأذن المصريُّ الحاجبَ للدخول على أمير المؤمنين، فقال له الحاجب: تعال غدًا أمير المؤمنين مشغول اليوم عنده اجتماع. لم يدرِ المصريّ أنّ الغد في قاموس الجهات الحكومية هو أجلٌ غير مسمّى, فغدهم ليست هي غدُه.. استمرّ المصري على هذه الحال أياماً كلما أتى باب الخليفة وجد الحاجب بعذرٍ جديد، تارةً الخليفة في اجتماع, وأخرى الخليفة يستقبل ضيوفًا, وثالثة الخليفة لم يأتِ لمكتبه بعد, ومرةً انتهى الدوام. بعد أيامٍ وأيام من طرق الأبواب تيسّر للمصريّ لقاء الخليفة, لكن كما قال له الحاجب: لا تكثّر كلام الخليفة مشغول ومو فاضي لا تصدّع له دماغه. دخل المصريّ على عمر وأوجز له شكواه في دقائق, سكت عمر لبرهة وأطرق مفكّرًا، ثم قال: لازم نتبيّن من الشكوى ونرسل برقيّة مع البريد الحكومي لوالينا على مصر عمرو بن العاص لنتأكد من اللي صار. بعد أسبوعين استلم عمرو بن العاص رسالة الخليفة فاستدعى ابنه واستوضح منه عما حدث فصارحه ولده بتفاصيل ما دار بينه وبين المصريّ الذي تجرّأ وأهانه أمام الملأ بانتصاره عليه. أرسل عمرو للخليفة عمر يخبره بسوء التفاهم الحاصل، وأنّ ما حدث لم يكن أكثر من مشادّة بين ابنه وذلك المصريّ, وأنّ الأمر بسيط ولا يستحقّ أن يُعطى أكبر من حجمه. قرأ عمر الرد على المصريّ ثم أتبعها بـ: يا ابني تنازل الموضوع بسيط ومو مستاهل تكبير، أصرّ المصريّ على موقفه وأنّه لابدّ أن ينال حقّه, فأمر عمر بتكوين لجنة تتقصّى حقائق الموضوع وأمر أن تسافر تلك اللجنة لمصر لتتأكد مما حدث, وخلال هذه الفترة يمكثُ المصريّ في المدينة حتى تعود اللجنة وترفع توصياتها للخليفة. سافرت اللجنة إلى مصر بعد أن تحدّد أعضاؤها وبدأت في التحرّي والتقصّي, ولأنّها لم تجد التعاون المطلوب فقد استغرقت مهمتها في مصر شهرًا كاملاً. مرّت أسابيع منذ أن عادت اللجنة من رحلتها والمصريّ ينتظر الجواب لكنّ الجواب ما زال في الطريق والقرار يُطبخ على نار هادئة, و كلّما أتى المصريّ باب الخليفة وجد الحاجب يكرّر عليه أسطوانته المشروخة: تعال بكره يا أخي نحنا ما عندنا إلا أنت؟! يا سيدي الخليفة مشغول بأمور المعارك والفتوحات وأنت مزعجنا بموضوعك!!. بدأ السأم يتسلّل لقلب الفتى المصريّ فوالده قد عاد لمصر لارتباطه بمشاغل كثيرة بعد أن تعطّل لشهور, والخليفة ما زال لم يحرهُ جواباً, ونفقته كادت تنتهي بعد أن أنفق معظمها على غذائه ومسكنه. إلى أن حان ذلك اليوم الذي نادى فيه الخليفة عمر حاجبه، وسأله إن كانت هناك ملفّات ما زالت لم تُغلق بعد, لحسن الحظ تذكّر الحاجب ذلك الفتى المصريّ الذي ما فتئ يزوره كلّ يوم ليطمئنّ إن كان هناك جديد, فأخبر الخليفة بشأنه. استدعى الخليفةُ المصريَّ، وقال له: يا بنيّ لو إنك رجعت بلدك كان أحسن لك من القعدة هنا,على كلٍ بحسب كلام اللجنة لنا إنه أوراق شكواك ما هي مكتملة لأنك ما عبّيت نموذج الشكوى الرسمي, لكن لأننا ناس حقّانيين ونخاف الله راح نصرف لك تعويض أسبوع عن الفترة اللي قضيتها هنا في المدينة. المشهد السابق هو سيناريو مُتخيّل لقصة عمر المشهورة مع القبطيّ الذي تظلّم له من ابن عمرو بن العاص. ربما كان المثال متطرّفًا, لكن من يدري ربما هذا ما كان سيحصل لو أنّ عمر الفاروق كان بيروقراطياً جداً في أسلوب إدارته. قد يسمعُ بعض من يهوى إيجاد الأعذار والمبررات بهذه القصص التي تحكي عدل عمر, فيجيب بأنّ الأمور كانت غير ما هي عليه الآن، ففي تلك العصور كانت البساطة هي النمط الغالب والسائد في أسلوب الإدارة, لكن في زمننا الحاضر فإنّ الأمور باتت معقّدة وشائكة بشكل أكبر مما كانت عليه في السابق، لكنه ينسى بأنّ رغم وجود تلك التعقيدات التي يتحدّث عنه إلّا أننا نملك في هذا الزمن من الإمكانات أضعاف ما كان يملك عمر وكثيرون ممن جاءوا بعده جعلت من التواصل بين الإدارات مهما تباعدت أمرًا سهلاً ميسّراً سريعاً. إضافةً إلى ذلك فإنّ عمر قد كان يديرُ إمبراطورية تضمّ كافة دول الخليج العربي إضافةً إلى العراق والشام ومصر وإيران وأجزاء من شمال إفريقيا, ولا توجد في عصرنا الحاضر دولةٌ عربية توازي أو حتى تقارب تلك الإمبراطورية في مساحتها, ومع ذلك كانت إدارته فعّالةً, ذات كفاءة عالية, العدالة فيها حاضرة وبعيدةٌ كلّ البعد عن تعقيدات البيروقراطية. الآن قد يرفع الموظّف أو المرء بالعموم تظلّمه لمديره الذي يقبع مكتبه في ذات المبنى، ومع ذلك لا يصله الردّ إلّا بعد دهر إذا استلمه أصلاً، قارن ذلك بموقف عمر مع القبطي وخذ بالاعتبار اختلاف الإمكانات التي كانت متاحة لهم. رغم أنّ أحداث القصة قد تكون استغرقت أسابيع إلّا أنّ عمر لم ينس مظلمة هذا المواطن القبطيّ البسيط الذي جاءه من مصر ليتظلّم من موقفٍ قد يعتبره البعض تافهًا بجانب حجم مسؤوليات عمر وهو الخليفة في إمبراطورية تواجه أعداءً متربّصين في جبهات مختلفة ولديها جيوش كانت في طوْر التوسّع العسكري في تلك الفترة. المقارنة بعمر ليست مقارنةً ظالمة, فعمر بشرٌ في نهاية المطاف وإمكاناته وطاقته محدودة لكنّه مع ذلك عندما تحمّل المسؤولية تحمّلها بأمانة وكان جديراً بها. عمر عرف معنى المسؤولية تماماً وعرف أنه حينما يرفع أيّ امرئٍ مظلمةً فإنّ حياته كلها قد تكون مرتبطة بها. عرف عمر أنّ المظلمة التي قد يعتبرها المسؤول ويتعامل معها على أنها مجرد جزء من يومياته في مكتبه هي حياةٌ بالنسبة لذلك المتظلّم الذي قد تحوز مظلمته على كل تفكيره فهو يعايشها طوال الوقت. هذا الانحدار العظيم في مفهوم المسؤولية لم يكن عند عمر أبدًا, فهو يقول: والله لو عثرت بغلةٌ بشاطئ دجلة لخشيت أن يسألني الله عنها, ولم يقل هذا من اختصاص وزير الزراعة والثروة الحيوانية. عمر عندما علم بأنّ بعيرا إبل الصدقة قد شرد ذهب يجري خلفه ولم يقل هذا من مسؤوليات موظفّي مصلحة الزكاة وبكره نرسل لهم مذكّرة, رغم أنّ هذا عند البعض يُعدُّ إخلاءً للمسؤولية. الإنسان الصالح معنيٌّ بأن يُصلح كلّ أمرٍ يستطيع إصلاحه بأيّ وسيلة ممكنة وإن كانت كلمة يكتبها أو يقولها, فكيف بمن كانت هذه الأمور مسؤوليته وواجبه؟!.