ينتظر الناس إعلان الميزانية العامة للدولة للعام المالي 1436/1437هـ ، بتلهف كبير؛ وذلك بسبب انخفاض أسعار البترول إلى النصف (حوالى 50%) خلال الأسابيع القليلة الماضية، ذلك الانخفاض الذي جاء مفاجئا للجميع، مما جعل الكل في قلق شديد من الآثار السلبية المتوقعة لمثل هذا الانخفاض المفاجئ مما جعل الكثير يحاول تفسير ذلك الانخفاض بطريقته الخاصه وحسب علمه أو أهوائه الخاصة. وبدون الدخول في محاولة تفسير الدوافع أو الأسباب لهذا الانخفاض المفاجئ ، لابد من ذكر بعض الحقائق الحاصلة على أرض الواقع: 1ــ هناك فائض في الإنتاج المعروض للبيع عن الكمية المطلوبة من المستهلكين . 2ــ هناك زيادة كبيرة في إنتاج النفط الصخري والغاز في أمريكا بسبب تقدم التقنية وانخفاض التكلفة . 3ــ هناك توقع بأن تصل أمريكا إلى الاكتفاء الذاتي في مصادر الطاقة في نهاية 2016 م. 4ــ هناك تراجع في معدل النمو الاقتصادي وبالتالي التراجع في الطلب على البترول من الصين وأوروبا . 5ــ هناك ما يعرف بالدورات الاقتصادية، وهي عبارة عن سنوات انتعاش اقتصادي يتلوها سنوات ركود . هذه العوامل الخمسة السابقة كافية لإخلال التوازن السابق بين العرض والطلب، بدون فلسفه أو نظريات مؤامرة، وسوف تتحقق نقطة توازن جديدة بين العرض والطلب عند سعر جديد بعد فترة الاختلال المؤقتة والحاصلة الآن . ولكن لماذا كل ذلك الانزعاج لدينا من تراجع أسعار البترول؟؟؟ منذ 45 عاما (الخطة الخمسية الأولى عام 1970م) ونحن ننادي بتنويع مصادر الدخل !! لأننا كنا نعلم أن أسعار البترول ليست بيدنا وليست مضمونة، فلماذا ننزعج لتراجع أسعاره ؟ ألم يحدث ذلك في عام 1985م حينما تراجع سعر البرميل من 40 إلى 6 دولارات؟ على أي حال هذا هو الواقع الآن ، فماذا نفعل ؟؟؟ أولا: لا ينفع اللوم أو تبادل الاتهامات ، عن السبب أو المتسبب. ثانيا: لابد من التعامل مع الواقع الحالي بشيء من الحكمة وبعد النظر. ثالثا: لابد من إعادة هيكلة الاقتصاد المحلي ليتعايش مع أسعار بترول أقل، فقد لانرى أسعار السبع سنوات السمان الماضية إلا بعد سنوات عجاف قادمة . رابعا: لابد من ترشيد في الموارد الاقتصادية والمالية الحاصل. وعلى أي حال ، وحتى نرى الصورة كاملة من كلا جانبيها، لابد أن نذ كر ونذ كر الجميع بالجوانب الإيجابية أيضا لانخفاض أسعار البترول علينا وعلى بقية دول العالم !! 1ــ لنتذكر أن دوام الحال من المحال وأن الدنيا يوم لك ويوم عليك، وأن ندخر القرش الأبيض. 2 ــ أن نعيد النظر في أسلوب حياتنا كأفراد وجماعات.. ونحاول الاقتصاد. 3 ــ نأخذ موضوع تنويع مصادر الدخل بجدية أكبر ولا نكتفي برفع الشعارات. 4 ــ عندما ينخفض سعر البترول ينخفض الإنفاق الحكومي على المشاريع الجديدة، وهذا يخفض من نسبة التضخم السنوي للأسعار، مما يخفض الإيجارات والأسعار عموما، مما ينعكس على رفع القوة الشرائية للموظفين وأصحاب الدخول الثابتة ، وكأنهم حصلوا على زيادة نقدية في الرواتب. 5ــ عندما انخفض سعر البترول ارتفع سعر الدولار ، وحيث إن الريال مرتبط بالدولار بقيمة ثابته فهذا يعني زيادة سعر الريال أمام جميع العملات الآخرى ، أي أن القوة الشرائية للريال الآن أعلى من الأول ، أي أن أسعار جميع السلع والواردة إلى المملكة ستكون أرخص مما سبق (ما عدا أمريكا) . وهذا سيعود بالفائد للمستهلكين لدينا (رب ضارة نافعة) ، فعلى سبيل المثال ستنخفض أسعار السيارات اليابانية والكورية والأوروبية بنسبه تتراوح مابين 10 إلى 20% خلال السنة القادمة، وكذلك غيرها من السلع (هذا إذا كانت وزارة التجارة متيقظة، ولا تسمح للتجار بالاحتكار) . 6ــ بالنسبة لبقية دول العالم المستوردة للبترول، فإن انخفاض سعره يعني مزيدا من الرفاهية لهم، وانخفاض في تكاليف التنقل وتكاليف الإنتاج ، لأن البترول داخل في كل أوجه الحياة الحديثة، وهذا سيؤدي إلى مزيد من الإنتاج والاستهلاك ، وانخفاض أسعار السلع، ويؤخر عملية الإحلال بمصادر الطاقه الأخرى والبديلة عن البترول، وسيعود الطلب على البترول إلى الارتفاع وخصوصا إذا ظلت الأسعار معقولة ومقبولة من المستهلكين لفترة طويلة . إذن ليست كل آثار انخفاض أسعار البترول سيئة ، فهناك آثار إيجابية لانخفاض أسعار البترول علينا وعلى بقية دول العالم، المهم هو معرفة كيفية الاستفادة الفعلية من التقلبات الدورية في أحوال الأسواق العالمية . الميزانية القادمة: في اعتقادي أن ميزانية العام القادم 2015م ستأخذ في الاعتبار كل تلك العناصر التي ذكرناها سابقا، وستعمل على تحقيق التوازن بين متطلبات التنمية المستدامة واستعادة الرشد الاقتصادي والمالي ، وستكون في حدود الـ 800 مليار بالزيادة أو النقص، وستقدر الإيرادات على سعر بترول في حدود 55 دولارا للبرميل، وسيكون هناك عجز بسيط في حدود 75 مليار ريال . وستكون هناك زيادة في مخصصات التعليم ، والصحة ، والنقل والمواصلات ، والخدمات الاجتماعية، وسيكون التوفير من جانب الإنفاق على المشروعات الجديده أو تمديد أمد بعض المشروعات القا ئمة، وتحفيز المشروعات المتعثرة والتي تقدر قيمتها بترليون ريال . لقد كان ارتفاع سعر البترول في السنوات الماضية له آثار سلبية ضارة على الميزانية والاقتصاد المحلي من حيث نسبة الهدر المالي والمشاريع المبالغ فيها وفي تكاليفها وعدم مراعاة الاقتصاد في الإنفاق والتكاليف. أما الإنفاق الفعلي في ميزانية العام المنصرم 1435/1436هـ فسيكون فيها فائض فعلي مقداره 150 مليار ريال ، وهو الفرق بين الإيرادات الفعلية 1050 مليارا والإنفاق الفعلي 900 مليار ريال. نظرة إلى المستقبل: ليست ميزانية هذا العام هي المشكلة، وليست ميزانية الأعوام الثلاثة القادمة أيضا تمثل أي مشكلة ! فلدينا من المدخرات المالية (الاحتياطيات النقدية) ما يسد العجز الحالي والمتوقع ، ولكن يجب أن نفكر إلى أبعد من ذلك، إلى العشرة أو العشرين، بل إلي الخمسين سنة القادمة !!! ماذا نفعل لو زاد إنتاج البترول والغاز الصخرى؟؟ وبتكاليف منخفضة ؟ ماذا لو اتبعت بقية دول العالم التقنية الأمريكية وأصبحت تنتج البترول والغاز؟ ماذا لو أصبحت مصادر الطاقة الأخرى أكثر وفرة وأقل تكلفة؟؟؟ هناك أسئلة كثيرة واحتمالات أكثر، ويجب أن يكون لدينا جواب لكل سؤال ، وتصرف وفعل لكل احتمال. * أستاذ الإقتصاد بجامعة الملك عبدالعزيز