فشلت وزارة العمل ووزيرها الهمام في تنظيم أو السيطرة على شؤون الاستقدام. تركت هذه الصناعة، التي تعاظم ربحها، بيد مجموعة من «الدكاكنجية» بثقافة أبعد ما تكون عن فهم متطلبات هذه الصناعة في الخدمة المنزلية أو الصناعية أو التجارية أو الموارد البشرية أو حقوق الإنسان مما انعكس سلباً على سمعة المملكة في المحافل الدولية من ناحية، وعلى المواطن أو التاجر المستقدم من ناحية أخرى. تنامت صناعة الاستقدام في بلادنا منذ منتصف السبعينيات، مع بداية خطط التنمية، حتى وصلت في يومنا هذا إلى أرقام خيالية، ليس في عدد المستقدمين والمستخدمين فحسب، بل وفي كلفة الاستقدام، إضافة إلى الظواهر السلبية الناتجة عن الاستقدام للخادم والمخدوم على حد سواء. سنتحدث هنا عن استقدام العمالة المنزلية فقط، وما آلت إليه العملية برمتها من نصب واحتيال وابتزاز للمواطن. يعاني المواطن والمواطنة للحصول على تأشيرة العمالة المنزلية عند تقديم الطلب، وهذا أول المشوار وبداية المعاناة، وبعد تسلم «الورقة الصفراء» كما تسمى، وهي وثيقة التأشيرة تبدأ فصول من المعاناة والابتزاز من مكاتب الاستقدام أو الوسطاء المرخصين لاختيار وإحضار ذلك العامل أو العاملة المنزلية وتتجلى في ثلاثة أمور: (1) الكلفة؛ (2) المدة؛ و(3) الجودة. فالكلفة لدى مكاتب الاستقدام فيها شيء ظاهر وآخر مستتر وتراوح من (5000) ريال لتصل إلى أكثر من (20000) ريال. أما المدة فتراوح من (3) أشهر وقد تصل إلى (9) أشهر. أما الجودة فمنعدمة تماماً. كان الاستقدام مرتبطاً بوزارة الداخلية حتى العام 2005م تقريباً ثم تم ضمه لوزارة العمل بعد فصلها عن الشؤون الاجتماعية، وهذا من أسباب تردي وضع الاستقدام، تماماً مثل ما حصل للسعودة بعد إلغاء مجلس القوى العاملة الذي كان يرأسه وزير الداخلية. اجتهدت وزارة العمل الوليدة بعد عملية الفصل السيامية عن الشؤون الاجتماعية أن تجعل كل ما يعنى بالعمل والعمال تحت مظلتها، لكنها فشلت في إدارة كل تلك القطاعات. ولذا تركت الوزارة التحكم في موضوع الاستقدام لمكاتب ووسطاء تجمعوا تحت ما يسمى اللجنة الوطنية للاستقدام وهذا ما أخرج الأمر عن السيطرة وترك الحبل على الغارب، كما يقول المثل. تفتق فكر الابتزاز، بعد ذلك، عن مقترح للتنظيم، وتم إنشاء شركات الاستقدام التي من المفترض حسب الصورة الوردية المرسومة لتسويق الفكرة، أن تقوم تلك الشركات بتنظيم الاستقدام وتيسير الحصول على العمالة بكل أشكالها وأنواعها وتخصصاتها وجنسياتها وبأرخص الأسعار وأعلى جودة. لكن الأمر أصبح أكثر سوءاً وازدادت معاناة المواطن بشكل لا يطاق. فشركات الاستقدام تدار بذات العقلية وليست إلا مزيجاً بين مكاتب استقدام استطابت الابتزاز والإثراء غير المشروع من المراوغة في الاستقدام، ومجموعة من التجار «الدكاكنجية» للسيطرة على صناعة الاستقدام في البلد المصدر للعمالة والبلد المستقدم. بمعنى آخر، أسهم إنشاء الشركات في هيمنة أكثر واحتكار أكبر. ترك أمر التفاوض مع الدول المصدرة للعمالة إلى ما يسمى «اللجنة الوطنية للاستقدام»، وساعد انشغال وزارة العمل وعجزها أيضاً على استفراد «اللجنة» بكثير من التفاصيل حتى نشأ صراع سيادة بين الوزارة واللجنة، والنتيجة أن المواطن أمسى ضحية تضارب المصالح تلك وتعقيدات البيروقراطية. فموضوع الاستقدام أضحى أكثر تعقيدا وأكثر كلفة وأكثر معاناة. أدت البيروقراطية إلى أن أصبحت رحلة الاستقدام ملأى بالملفات والمنعطفات والوقفات مما سمح لكثير من الانتهازيين من اختطاف المواطن في رحلته المضنية للبحث عن عامل أو عاملة منزلية. لا يعرف المواطن ماذا يحدث في عواصم البلدان التي نستقدم منها العمالة، قصص كالخيال في الابتزاز يتشارك فيها أصحاب ومندوبو مكاتب الاستقدام السعودية ومكاتب توظيف العمالة المهاجرة من بلدان الحاجة والفقر. يذهب صاحب مكتب الاستقدام، أو مندوبه في رحلة ثراء على حساب ذلك العامل أو العاملة المساكين، حيث يدفعون لأصحاب مكاتب التوظيف كل ما يملكونه من أجل الحصول على أولوية في العمل لدى دول الخليج. وما لا يملكونه يقترضونه على أمل التسديد مما يحصلون عليه خلال مدة تراوح من سنتين إلى أربع سنوات. كل ذلك من أجل أن يستمتع صاحبنا مالك مكتب الاستقدام أو مندوبه بإقامة فخمة ويعود بعضهم بمبالغ ضخمة. وهكذا يكون صاحب مكتب الاستقدام قد أثرى ثراء فاحشاً من الطرفين: من مستورد العمالة ومصدّرها أيضاً. ولهذا السبب قامت الدول المصدرة للعمالة بالتدخل للمشاركة في أخذ نصيبها من «الكعكة». صناعة الاستقدام لها مداخيل مالية هائلة قليل منها منظور وملموس وكثير منها خفي وغير ملموس. بات لهذه الصناعة «مافيا» ومجموعات ضغط تسحق كل من يحاول التعرض أو المساس بها، ولطالما شبه كاتب هذه السطور صناعة الاستقدام، بصناعة نقل النفط عبر الناقلات والشاحنات التي بدأت كصناعة مؤقتة مع مطلع القرن العشرين بدلاً من نقل النفط عبر الأنابيب، لأسباب سياسية وجيو سياسية وتقنية وجغرافية وطبوغرافية حينذاك، ثم ما لبث نقل النفط عبر الناقلات أن أصبح هو القاعدة وما عداه هو الاستثناء، لما نشأ من تجارة ومال ومصالح و«مافيا» ومجموعات ضغط لن تقبل بتبدد مصالحها. أخيراً، لا يمكن للحكومة أن تسمح باستمرار مسلسل اللعب والرعب الذي تقوم به مكاتب وشركات الاستقدام، فلا جهة أو تكتل يمثل المواطن للوقوف ضد الابتزاز، ولا اتحادات أو نقابات تمثل تلك العمالة البائسة اليائسة، ولا رادع من ضمير يحد من جشع أصحاب مكاتب وشركات الاستقدام، ولا وزارة عمل قادرة على إدارة هذا الموضوع البالغ الأهمية، والحل يتلخص في التالي: (1) فصل الاستقدام عن وزارة العمل وإعادته لوزارة الداخلية، أو ضمه لوزارة الخارجية، (2) حل اللجنة الوطنية للاستقدام ومنعها من التفاوض باسم المملكة العربية السعودية، (3) وضع قائمة أسعار يتم مراجعتها كل خمس سنوات، (4) توقيع غرامة مالية على كل مكتب استقدام في الداخل أو الخارج يثبت فرضه رسوماً أو «أتاوة» على العامل المستقدم بشكل مباشر أو غير مباشر، وسحب الترخيص أو المنع من المزاولة في حالة التكرار، (5) سحب ترخيص مكتب توظيف في الخارج للتعامل مع القنصلية السعودية في حال ثبوت أن المكتب قدم تسهيلات أو هدايا بشكل مباشر أو غير مباشر لمكتب الاستقدام أو الوسيط السعودي، (6) تحديد مبلغ (500) ريال فقط كأتعاب إدارية لمكتب الاستقدام عن كل تأشيرة. (7) فرض فحوصات مهنية على كل عامل أو عاملة منزلية. ختاماً، العمالة المنزلية قضية استقرت في الوعي الجمعي للمجتمع السعودي وعلى الحكومة أن توليها جل رعايتها، فهي أكبر من مكاتب وشركات الاستقدام، وأكبر من قدرة وزارة العمل والوزير. يشدو محمد عبده: كفاني عذاب الله يجازيك بأفعالك.. ينشد غازي القصيبي: فإني نسيت الإجابات منذ تبرأت من نزوة الشعراء وعدت لزمرة الأذكياء الذين يخوضون هذه الحياة بدون سؤال.. بدون جواب ويأتزرون بالنقود ويرتشفون النقود ويستنشقون النقود. # طراديات سلام على الدنيا إذا لم يكن بها صديق صدوق صادقاً الوعد منصفاً