المهزومون هم أولئك الذين لم يُهزموا في معارك عسكرية، بل هم المهزومون نفسياً، تحمل ذواتهم الكثير من الانكسارات ووسمت قلوبهم بالكثير من الندوب.. أولئك من أجهدهم كثرة التحليق.. وأتعبهم سحب الأنفاس.. تُعاكسهم جاذبية الأرض.. وتُرجعهم كثيراً الرياح.. فلا يصلون أبداً للغمام.. سألت الدياجي عن أماني شبيبتي فقالت: «ترامتها الرياح الجوائب» ولما سألت الريح عنها أجابني: «تلقفها القضا، والنوائب» «فصارت عفاء واضمحلت كذرة على الشاطئ المحموم والموج صاخب» تتكسر أحلامهم على موج مده يغرق، وجزره ساكن سكون الجماد فيصلون الشواطئ بلا صيد.. تًقابلهم.. تُحادثهم.. تُحاورهم فلا تجدُ إلا ذلك الهمس القاطر مرارةً.. فتتعجب أتنكسر الأنفس إلى هذا الهشيم!! كنا نراهم بجباه لا تُنكس أبداً.. فأصبحوا لا يسيرون إلا مطأطئون.. بلا أرواح.. عيون خبا بريقها.. شفاه عندما تعلوها الابتسامة ترى ذلك اللون فيها لون الانكسار وصفرة الهزيمة.. تُرى متى تصل ملامح الهزيمة إلى هذا المدى؟! ومتى يصل بشر من البشر إلى هذا الحد من الانكسار، فتصبح نفسه مهزومة دائماً؟!! ببساطة عندما يفتقدون القدرة على الشجار.. القوة على العراك والاعتراك مع الحياة ويتعاملون مع كل شيء وأي شيء ببرود وتبلد ولا يرون من كل المعتركين سوى ذاتهم الوحيدة في هزيمتها من بين كل ذوات البشر.. كآبة الناس شعلة، ومتى مرت ليال خبت مع الأمد أما اكتئابي فلوعةً سكنت روحي وتبقى بها إلى الأبد أتدرون من هم أكثر المهزومين انكساراً؟!! هم الذين دوماً يُعطون ويبذلون.. كيف يعطون؟ ومتى يعطون؟ هذا لا يهمهم، سعادتهم في البذل.. ونشوتهم في العطاء.. فقط هم يعلمون لمن هم يُعطون!! لذا عطاؤهم بلا حدود فعطاؤهم لا يقرن بجاه.. لا يجتمع مع مال ولا هدف مادي أو حتى معنوي.. منها ما هو فطري مثل بذل أم حنون عطاؤها صاف رقراق لا تنتظر منه جزاءً ولا شكوراً.. وخوفها متجرد إلا من حنان يملأ الكون فيكاد يضيق به.. ومنها ما هو عطاء دافعه الوفاء.. عطاء زوجة عاشت مع زوجها محنه المادية والصحية سنين طوالاً وهي لا تنتظر من كل صبرها أو بذلها سوى ابتسامة رضا أو لمسة حنونة.. وذاك عطاء رقيق تُغلفه رهافة حس محب.. يمنح لأنه يُحب.. ويُعطي لأنه يُحب.. سخي في عاطفته.. مُتدفق في عطائه.. لا يهمه أبداً لو كانت ساعات يومه وغده كلها عطاء.. يملك حساً يجعله يلتقط لحظة الضعف ليمنح.. ولحظة الوجع ليداوي.. فهو في النهاية محب.. هذه نماذج بسيطة للعطاء.. وهناك الكثير من النماذج ولكن نحن نتخاطب مع هزائم النفس لا عن نماذج العطاء!! تعلمون هؤلاء متى تنهزم أنفسهم؟!! تلك الأم التي أعطت سنين.. دفنت كل أحلامها وأمانيها لتعطي.. تنكسر نفسها كثيراً عندما ترى مظاهر للعقوق عندما تمرض في فراشها وتتلمس تبحث عن شربة ماء فلا تجد في ردهات ذلك المنزل الكبير سوى خادمة تمتن عليها بكأس الماء. فيسقط فلا تُحضر لها غيره!! ألا تنكسر النفس ويلحق بها هزيمة؟!! وتلك سهرت ليلها.. وواصلت نهارها سنين.. تعلمت فن التمريض كي تُغني زوجها عن ممرض أو ممرضة.. فتُعطيه بيدٍ حانية إبرة كل صباح وأخرى كل مساء.. حتى أخص الأمور في نظافته الشخصية تتولاها.. فتسنده رغم متاعب جسدها فهي لا تبالي رغم أنها في النهاية امرأة.. سنين تُصلي ليلها تدعو له بالشفاء.. تلهج دامعة له بالعافية.. وعندما منّ الله عليه بالصحة والعافية بعد شهر كافأها بزوجة وقال لها: ليس لك في نفسي شيء.. إن أردت المكوث مع أبنائك فلك ذلك!! أي هزيمة تلك التي ستهد أركان النفس.. وأي انكسار ذاك الذي سيشرخ عمود الحياة؟!! وحينها لا طعم ولا لون لأي شيء وكل شيء!! ولكن أما من علاج لتك الأنفس المكسورة.. ولأولئك المهزومين؟!! لا أعتقد.. لأن تلك السنين الماضية لن تعود حتى يكون البدء من جديد..!! لكن نقول للبادئين عندما تعطون وتتدفقون بذلاً لا تمنحوا لذوات الأشخاص مهما كان الحب طاغياً.. ومهما كان الوفاء مُتجذراً.. لأنهم في النهاية بشر قد لا تُعينهم ذواتهم على زرع عطائكم ولا تساعدهم الحياة على سقاية ما تعطون.. فترونه جحوداً.. أتعلمون ما الخلطة السرية والدواء العجيب لكل ذلك؟ أن تبذل.. وتبذلين.. لأنكَ ولأنكِ لا تنتظرين وفاءً بشرياً.. بل ترين وترى ما هو أرفع وأكثر إكساباً للرضا عن الذات.. وأقوى استحقاقاً للسعادة.. أن تمنحوا لله لأنه سبحانه الأوحد.. ولأن مثقال الذرة عنده لا يضيع.. فلا جحود.. ولا مرارة.. ولا انكسار.. فأين تكمن الهزيمة والمقابل حتماً موجود.. ولكننا في النهاية بشر لا تعظنا تجارب الآخرين.. ولأننا بشر لا بد أن نعاركها نحن.. ولا بد أن تمر بنا لحظات تهزم نفوسنا.. ولكننا حتماً نرممها حتى تعود وتنكسر من جديد.. فنحن بشريون..