في سبعينات القرن الماضي، دفع اليأس الفلسطيني منظمات المقاومة جميعا إلى القيام بعمليات وصفت بالإرهابية في حينها، كان الجديد فيها هو خطف الطائرات وتحويل مساراتها، وكذلك احتجاز رهائن، واغتيالات متفرقة. شعر العالم آنذاك، وأوروبا بالذات، بخطورة التوجه الفلسطيني نحو هذا المسار، واضعين في الاعتبار انتشار الفلسطينيين والعرب والمتعاطفين معهم في كل أرجاء المعمورة، مما شكل تهديدا أمنيا خطيرا ومباشرا على القارة المستقرة. وقد اجتهد الأوروبيون آنذاك في معالجة هذه الظاهرة المقلقة، بفتح نوافذ أمل للفلسطينيين، تدفعهم إلى الإقلاع عن هذا المسار لمصلحة أفق سياسي، يصلح للرهان عليه واتباعه لتحقيق ما أمكن من الأهداف الفلسطينية، أي أن الأوروبيين استبدلوا بمسدس اليأس مكتبا سياسيا، يحمل صفة تمثيلية في عواصمهم. وانتشرت في ذلك الوقت ظاهرة الاعتراف الضمني بمنظمة التحرير الفلسطينية، وتطوير لغة التعاطف مع الفلسطينيين، باعتبارهم أصحاب قضية معترف بها وتحتاج إلى حل. ومنذ ذلك الوقت أقلعت فصائل العمل الفلسطيني عن القيام بعمليات خارجية، باستثناء بعض الظواهر الجزئية كظاهرة الإرهابي أبو نضال الذي اعتبر خارجا عن الإطار الفلسطيني المعترف به، خصوصا حين أسرف في قتل الفلسطينيين المعتدلين، حتى قيل آنذاك «لو لم يكن أبو نضال موجودا لأوجده ألد أعداء الفلسطينيين»، ومنذ ذلك الوقت أيضا ظهر ميل فلسطيني شعبي ورسمي تجاه أوروبا، كصديق أفضل من الولايات المتحدة في تفهم الفلسطينيين والعطف عليهم، كما تفهم الفلسطينيون ضعف الدور الأوروبي بفعل الفيتو الأميركي المشهر ضده على الدوام. وفي هذه الأيام يبدو كما لو أن التاريخ يعيد نفسه ولكن ليس بصورة حرفية، فاليأس الفلسطيني أصبح هو سمة واقعهم؛ ففي غزة يأس من الحصول على أبسط حقوق المواطنين الذين فقدوا بيوتهم وأبناءهم، إضافة إلى ما فقدوه في سنوات الحصار الصعبة التي أطبقت على أرواحهم وجعلت حياتهم استثناء عن حياة باقي البشر في أي مكان.. وفي الضفة الغربية والقدس يستفحل يأس جماعي بفعل تمادي كابوس الاحتلال والاستيطان، والتفنن الحكومي والمؤسساتي الإسرائيلي في قهر الفلسطينيين وإغلاق كل الأبواب والنوافذ على حياتهم. وقد أفرز اليأس الفلسطيني نزوعا تلقائيا نحو العنف، وأقول تلقائيا لأن موجة العمليات الأخيرة في الضفة تحديدا لم تكن موجهة من السلطة ولا من الفصائل، بل إن إسرائيل وأجهزتها ومؤسساتها أجمعت على أنها عمليات تلقائية سببها اليأس، ليس من الحل السياسي فقط وإنما من طبيعة الحياة القاسية المفروضة على الناس في هذا السجن الكبير. وهنا دعونا نلق نظرة على الاجتهادات المتعددة في معالجة آثار اليأس الفلسطيني، فالفلسطينيون أولا، خصوصا السلطة في رام الله، أظهروا مرونة محرجة أساء الإسرائيليون والأميركيون فهمها، فبدل أن يتعاملوا مع هذه المرونة بمنطق البحث عن حلول سياسية فإنهم نسبوها إلى العجز، فوضعوا حلولا أمنية صرفة، بينما اكتفى الأميركيون بالوعظ والإرشاد والمضي قدما في سياسة اللاجدوى التي ما برحوها على مدى عقود. أما الصديقة أوروبا، التي تسمع رنين الإبرة لو وقعت في أي عاصمة عربية، وتخشى من انتشار العنف تحت عناوين متعددة، فقد جاهرت باجتهادها في المعالجة بضرورة بل وحتمية الدخول إلى محاولة جديدة لتسوية سياسية، ربما تصل إلى عقد مؤتمر دولي لهذه الغاية. وفي هذا السياق لم تكن ظاهرة عفوية مواقف البرلمانات الأوروبية المتتالية للاعتراف الرمزي بدولة فلسطين وفق مبدأ القليل من القطران. فلعل هذه الاعترافات تسكن آلام الفلسطينيين وتحجم يأسهم وتضع أمامهم أملا وإن كان بعيدا من حيث التحقق إلا أنه يعالج اليأس على الأقل. وفي هذا السياق أيضا، عاجل الفرنسيون، بالتشاور مع أشقائهم الأوروبيين وباقي أركان معسكرهم الغربي وعلى رأسه الولايات المتحدة، إلى اقتراح مشروع فيه بعض من القطران، إلا أنه رُفض من جانب إسرائيل جملة وتفصيلا، وحتى لو طلبت فرنسا من نتنياهو شخصيا أن يصوغ القرار الذي يناسبه فإنه سيعتذر لأنه يرفض مبدأ دخول الأمم المتحدة وغيرها على خط الحل مهما كان. إن اختصاصي علاج اليأس الفلسطيني يعرف جيدا حدود عمل المسكِّن والمخدر في أمر علاج الحالات المستعصية، إلا أنه وتحت الحصار السياسي الأميركي للدور الأوروبي أذعن لما فرض عليه، فهو في السياسة مسكِّن ومجرد باعث أمل بعيد، إضافة إلى أنه الممول الرئيسي لفترة الانتظار الفلسطيني الطويلة وربما اليائسة في أمر بلوغ الحل المنشود. هذا هو المشهد السياسي الآن، ولقد توج بقرار أميركي باستخدام الفيتو في مجلس الأمن، أما ما بعد ذلك فإن ما يمكن أن يحدث في المجلس سيسحب نفسه على محكمة الجنايات الدولية التي هي الورقة السياسية الأخيرة في يد الفلسطينيين، فهل تفكر أوروبا في طريقة أكثر فاعلية باستبدال العلاج الفعال بالمسكِّن الآني؟ أم أنها سوف تبحث عن مسكنات أقوى تلزم في المرحلة المقبلة المفتوحة على كل الاحتمالات خصوصا السيئة منها؟