أصدرت إحدى الجهات الرقابية خطتها الاستراتيجية الثالثة، والتي اشتملت على عدد من الفجوات والاحتياجات الراهنة لها، والتي كانت من أهمها فيما يتعلق بالموارد البشرية وهي "ضعف الولاء الوظيفي من قبل بعض الموظفين"! وعلى هذا الأساس كان الهدف الرئيسي للخطة الاستراتيجية هو تنمية القدرات البشرية، والهدف الفرعي كان تعزيز الولاء الوظيفي من خلال التحفيز المادي والمعنوي. هذا ولم توضح الخطة ما المقصود بضعف الولاء الوظيفي، فحسب المفهوم المتداول في علم الإدارة يعني الولاء "الشعور الإيجابي المتولد لدى الموظف تجاه منظمته والإخلاص لأهدافها والارتباط معها والحرص على البقاء فيها من خلال بذل الجهد بما يعزز من نجاحها وتفضيلها على غيرها". وبناءً على المفهوم السابق للولاء الوظيفي، فإن السؤال المطروح هنا: هل هناك شعور سلبي تجاه تلك الجهة الرقابية متولد لدى الموظفين، وبالتالي عدم الإخلاص لها وعدم قبول أهدافها وسياساتها ومن ثم عدم الرغبة في البقاء فيها؟ أم أن المقصود بضعف الولاء هو التسرب الوظيفي من الجهة لوجود فرص مغرية ومزايا مادية لدى الجهات الأخرى التي يذهب إليها الموظف؟. بعض الجهات الحكومية تعتقد خطأً أن المقصود بالولاء الوظيفي هو تسرّب الموظفين والانتقال إلى جهات أخرى بسبب قلة الحوافز، والبعض الآخر يعتقد أن الولاء هو طاعة أوامر الرؤساء وقبول تعليماتهم وتوجيهاتهم دون مناقشة أو اعتراض، ومن يعترض فهذا يعني ضعف الولاء الوظيفي لديه! وفي كلتا الحالتين يكون المفهوم العام والسائد للولاء الوظيفي في بعض الجهات الحكومية: الطاعة العمياء للرئيس أو المدير الإداري، وبذل الجهد في سبيل تحقيق أهدافه الشخصية، بحيث يكون هناك استنزاف للجهود واستغلال للمال العام يصبان في المصلحة الشخصية فقط، ومن يعترض على هذا الوضع من الموظفين يتم الضغط عليهم وإجبارهم على ترك العمل والانتقال إلى جهة أخرى، ليكون السبب هو وجود حوافز أكثر في تلك الجهات! والمفهوم السابق هو السبب الرئيسي والحقيقي الذي يؤدي إلى ضعف الولاء الوظيفي لدى الموظف الحكومي بل وإحباطه وتدمير معنوياته وعدم الحرص على تحقيق الأهداف الحقيقية للجهة، وبالتالي عدم الرغبة في الاستمرار في العمل والانتقال إلى جهة أخرى. تدعي بعض الجهات الحكومية بأن الموظفين لديها هم رأسمالها الحقيقي وتسعى إلى العناية بتطويرهم وتأهيلهم علمياً وعملياً ومهنياً في حقول اختصاصاتهم وتهيئة بيئة العمل المناسبة لمساعدتهم على أداء أعمالهم وفق أفضل الأساليب والممارسات المهنية بهدف زيادة الإنتاجية ورفع كفاية الأداء وتحسين جودته. بينما الحقيقة أن تلك الجهات تنظر إلى الموظفين نظرة متخلفة وسلبية تقضي على ولائهم وتدمر معنوياتهم وتزيد من نسبة التسرّب الوظيفي لديها، الأمر الذي يؤدي إلى آثار اقتصادية سلبية على الخدمات الحكومية والمتعاملين معها، فهناك استهانة بجهود الموظفين، ورقابة لتصيّد أخطائهم، وانعدام الشفافية في التعامل معهم مع إخفاء الحقائق. بالإضافة إلى ما سبق، تشير إحدى الدراسات في هذا المجال إلى أن أهم العوامل الطاردة للولاء الوظيفي هو استخدام بعض الجهات لسياسة "الجزرة والعصا"، فالجهات التي تتبع هذه السياسة تقدم الوعود البراقة "الجزرة" التي تنتظر الموظف الأمين الدؤوب من علاوات سنوية وتأمينات ومكافآت وتقاعد وفرص ترق لمناصب أعلى، وناحية أخرى تهدّد بأن يفقد كل هذه المميزات ويفقد معها الشعور بالأمان "العصا"، هذه السياسة كفيلة بطرد الولاء والانتماء الحقيقي للجهة. كما نجد إجماع كثير من الباحثين على أن القيادة الإدارية المتسلطة والمستبدة تشكل أهم العوامل المؤدية إلى تقليل الولاء الوظيفي، إذ توجد نوعية من الرؤساء ذوي الشخصيات النرجسية التي ترى نفسها "الأفضل والأحسن والأجمل والأذكى"، وتنظر إلى الموظفين على أنهم غير "جديرين بأي شيء فهو الأجدر والأحق". وعلى الموظفين أن "يخضعوا له وأن يتباروا في إرضائه وإن يتنافسوا في خدمته"! ويرى أحد الباحثين في أن التعامل مع أصحاب الشخصية النرجسية يكون بترك "الكلمة الأولى والأخيرة" له، وألا تتم مناقشته أو الاعتراض على رأيه أو نقده، وعلى الموظفين أن يتقبلوا ذلك صاغرين وألا يغضبوا وإلا سوف يلقى باللوم عليهم، فالمطلوب هو النفاق للرئيس والتفاني في خدمته والخضوع له، فيدخل الموظف في دائرة الاستعباد والتدني والقهر. ولا أبالغ إن قلت إن بعض الجهات الحكومية قامت بتغيير موقع المصلى في مبناها بحيث يكون بالقرب مباشرةً من مكتب الرئيس حتى لا يعترض الموظفون طريقه ويخالطوه، وتقوم بمعاقبة من يقوم بتخطيه في الصلاة! ولذلك فإن أي موظف لا يجاري هذا التيار فسوف تدوسه رحى البيروقراطية ويندثر تحت أقدام الصاعدين إلى المراتب الأعلى، وسوف يقذف خارج الجهة الحكومية حتى وإن كان من المؤهلين والكفاءات ومن أصحاب الشهادات العليا والخبرة. بعض الموظفين الجادين يعتقدون بأنهم سيكافؤون على اجتهادهم وإخلاصهم في العمل، فيفاجؤون بتوجيه خطاب "لفت نظر" إليهم أو حرمان من دورة تدريبية أو انتداب خارجي كعقاب نظير تأخرهم في إنجاز الأعمال الموكلة إليهم، والذي قد يكون بسبب الحرص على جودة العمل أو لكثرة المهام المكلفين بها التي ربما كانت بهدف الضغط عليهم لترك الجهة، بينما غير المجدين الذين يقدمون أعمالاً متدنية الجودة هم الأسرع في الترقي والتقدم في المراتب الوظيفية والحصول على الدورات والانتدابات والمكافآت، والسر في ذلك يتمثل في الولاء الشخصي للرئيس الإداري. لقد استغل البعض المصطلحات والمفاهيم العلمية في الإدارة، للتغطية على المشاكل والأزمات الموجودة في بيئة العمل ومن أجل مصالحهم الشخصية، فجعلوا من الولاء الشخصي ولاءً تنظيمياًّ، ومن هروب الموظفين من سطوتهم تسرباً وظيفياً، ومن أهدافهم الشخصية خططاً استراتيجية، ومن أوامرهم واجبات وظيفية، ومن ممارستهم الفاسدة خبرة إدارية، ومن طموحاتهم مشاريع تنموية!