الزمن: (منتصف التسعينيات الهجرية)، في الصباح الباكر ليوم شتائي قارس البرودة وقبل الشروق بدقائق يمتطي الطفل دراجته الهوائية المركونة في فناء البيت ليتوجه إلى الدكان الصغير المسمى (بقالة الوفاء) التي تقبع على ناصية طريق فرعي في ذلك الحي الناشئ (الحزم) الكائن شمال المبرز من حاضرة الأحساء، تلفح البرودة وجهه الغض فيبطئ من سرعته ويتوقف ليشد اللثام ويحكم الشماغ ويواصل السير وكلما اقترب من ذلك الدكان الصغير فاحت رائحة الخبز الساخن من الفرن القريب، وكلما اقترب أكثر ازداد توافد العمال الكادحين من السعوديين والوافدين القادمين لتناول إفطارهم في فوال (الهنا) الذي لا يزال باسمه وموقعه حتى اللحظة. وعلى رف قريب من البائع في الدكان الصغير، كانت (جريدة اليوم) تأخذ مكاناً بارزاً، فتمتد يد الطفل لأخذ نسخة قبل أن تنفد النسخ المحدودة، يطلب الطفل بعدها من البائع أن يكيل له من الجبن الهنجاري الناصع البياض والزيتون الأسود الأسباني والحلاوة الطحينية الحجازية، يضعها البائع (العم علي) في الأكياس البلاستيكية الشفافة، يخرج الطفل من الدكان إلى الفرن فيشتري الخبز الساخن المنتفخ سخونة والموشح باللون الأشقر والزكي رائحة، ويعود إلى البيت. في البيت تكون العصيدة الأحسائية قد أخذت مكانها بين العائلة المتحلقة حول مدفأة الغاز، وكانت الوالدة- حفظها الله- من أكثر من يجيد طهي العصيدة المكونة من التمر والطحين الأسمر، هذه الوجبة الموسمية الشتائية اللذيذة تحرك (تضرب) أثناء الطهي وبعد النضج بعصا صغيرة ثقيلة من خشب شجرة السدر أو اللوز تسمى (المضرابة) وبعد أن تنتهي العصيدة يُصب فوقها السمن البقري ويُنثر على وجهها وأطرافها الفلفل الأسود المطحون، وبعد وجبة الإفطار الشهية تتناقل الأيدي بشغف جريدة اليوم مع الحليب الساخن الممزوج بالزنجبيل. انتقل للمشهد الثاني؛ حيث دراستي في المرحلتين المتوسطة والثانوية. وفي تلك المرحلة العمرية كانت جريدة اليوم تحتل مكانا مهماً في البيت، إلا أن ما يميز تلك الفترة تعدد اهتمامات القراءة في عائلتي بين مجلة ماجد للأطفال والمجلات الكويتية النهضة واليقظة ومرآة الأمة وعالم الفن المصرية وغيرها من القصص والكتب التي كانت توفرها مكتبة الفتح القريبة من منزلنا والمحاذية لقصر (صاهود) الأثري من جهة الغرب ومكتبة القيروان الكائنة في قلب بلدتي القديمة. ومع تعدد مصادر المعرفة المحدود آنذاك، كانت جريدة اليوم تحتل صدارة المشهد في البيت ولدى العائلة. في المشهد الثالث وأثناء دراستي الجامعية؛ بدأت ميولي الأدبية بالمشاركة في صفحات القراء في نشرة الجامعة التي كان يرأس تحريرها الدكتور زكريا لال، وتزامنت مشاركاتي في تلك الفترة في الصحف المحلية التي كانت جريدة اليوم أهمها بالطبع، في تلك الفترة فتحت الجريدة قلبها قبل صفحاتها للأقلام الشابة في صفحات حوار مفتوح وكتابات والواحة وغيرها من الصفحات، وكان من أبرز الأقلام الشابة وقتها الأصدقاء والزملاء: سامي الجاسم ويوسف العطوي- رحمه الله- وحمادي الحمادي وناصر الجاسم وعبدالله العويد وعبداللطيف الوحيمد ومصطفى الذرمان وغيرهم. المشهد الرابع وبعد الوظيفة والزواج؛ حدث أن توقفت اختياراً عن الكتابة وبلا أي سبب مقنع حتى لي شخصياً، استمر ذلك لسنوات، وهذا الانقطاع غير المبرر لم يمنعني من المتابعة اليومية لمحبوبتي (اليوم) إلى أن عدت للكتابة بين وقت وآخر في صفحة عزيزي رئيس التحرير، ومن ثم الكتابة في صفحات الرأي بشكل غير منتظم، حتى الوصول إلى هذه الزاوية الأسبوعية الثلاثائية الثابتة والمنتظمة، وحين أتأمل تلك المراحل حتى اليوم، أجدني فخوراً جداً بأن كان ذلك التنقل صعوداً في بلاط صاحبة الجلالة، لم يأخذ صفة الاختزال المقيت المفعم بحرق المراحل، بل أخذت كل مرحلة مداها الطبيعي التلقائي الهادئ، رغم أنني لم أخطط لذلك بقدر ما كانت أمنيات، وسبب ذلك كله في تقديري العلاقة التاريخية المتجذرة بيني كقارئ وبين الجريدة هذا سبب، والسبب الآخر ميولي الأدبية والثقافية والصحفية على وجه التحديد. اليوم تغمرني الفرحة بأن أرى محبوبتي اليوم تزهو بجمالها الأخاذ وحسنها الطاغي في عرسها الثقافي بيوبيلها الذهبي بعد خمسين عاماً من الحضور المترع بالجمال في المجتمع الأحسائي والشرقاوي. فـ (اليوم) لدينا ليست مجرد جريدة بل هي مكون انصهر وانسجم وامتزج مع أهم المكونات النفسية والاجتماعية والمعيشية للإنسان في هذه المنطقة الغالية. اليوم احتفل مع محبوبتي اليوم بعد علاقة وثيقة جداً استمرت أربعين عاماً، بدأت منذ أن كنت أشتريها فجراً من العم (علي) في دكانه الصغير إلى أن وصلت إلى هذه الزاوية التي أكتب فيها منكم ولكم. كل عام وأنت الحب حبيبتي (اليوم).