دمياط، شتاء 1956، بورسعيد تحتلها القوات الإنجليزية والفرنسية، وسيناء تحتلها القوات الإسرائيلية. من دون عمل، اقترح علي صديق أن أعمل معه مدرسا في مدرسة خالد خشبة، إنها نفس المدرسة الإلزامية التي التحقت بها عندما كنت طفلا صغيرا، في ذلك الزمن البعيد كانت هناك مرحلتان من التعليم تسبقان التعليم الابتدائي، الأولي والإلزامي، لست أذكر طبيعة الأولي أما الإلزامي فهو يعني أن الالتحاق بالمدرسة الإلزامية، أمر ملزم لكل ولي أمر، كل يوم يغيبه التلميذ يعاقب عليه ولي الأمر بالغرامة. في حصتي الأولى طلبت من أحد الأطفال أن يكتب على السبورة موضوعا اخترته له من كتاب المطالعة، أخذ التلميذ يكتب الموضوع بثبات وثقة وبخط جميل أشعرني ببعض الحسد. بعد أن انتهى من كتابة الموضوع طلبت منه أن يقرأه فنظر إلي في حيرة نظرة تعسة: - اقرأ يا بني ما كتبته.. رد في خجل: ما اعرفش.. هذه هي النتيجة المخيفة لاختراع «الطريقة الكلية» في تعليم القراءة والكتابة، لمئات السنين تعلمنا القراءة والكتابة عن طريق وزن وحصد، ننظر إليها وننطق حروفها.. نقرأها ونكتبها.. أما هذه الطريقة الجديدة «شرشر نط عند البط» فهي تمثل كارثة ستظهر آثارها على مدى السنوات القادمة. وهذا هو بالضبط ما حدث، يقضي الطفل عدة أعوام في مرحلة التعليم الابتدائي ليكتشف أهله أنه عاجز عن كتابة اسمه. وبدأت ظاهرة «التسرب» من التعليم. أليس من العار أن نسبة الأمية في مصر ترتفع بشكل مطرد في كل عام منذ ثورة 1952؟ قبل ثورة يوليو أمكن حصر مشاكل مصر في أعداء ثلاثة: الفقر والجهل والمرض، ترى أي عدو من هؤلاء الأعداء تمكنا من القضاء عليه؟.. ولا واحد!! فقد تم العبث بالبوصلة المصرية لكي نتجاهل هؤلاء الأعداء لنخوض معارك وهمية أسهل ضد أعداء آخرين.. الإمبريالية العالمية، الاستعمار، ذيول الاستعمار، الإقطاع، وذيول الإقطاع، والرأسمالية المستبدة المتحالفة مع الرجعية العربية. نسينا الفقر فازددنا فقرا، تجاهلنا الجهل، فازددنا بلاهة، أهملنا الاهتمام بالصحة العامة فازددنا مرضا. أمراضنا الحقيقية كما شخصها الأجداد ما زالت على حالها، بل يمكن وصفها بأنها الآن في خير حال بعد أن انضم إليها حليف جديد هو الإرهاب. ضع أي إرهابي على مائدة التشريح، ستجده جاهلا أحادي النظرة، وفي الغالب الأعم ستجده لا يجيد أي حرفة، هو لا يجيد شيئا ولا يمتلك شيئا (احترس من هذا الذي لا يمتلك شيئا.. الفلاح الفصيح - بردية مصرية قديمة) من المستحيل أن تجيد مهنتك أو حرفتك وتتحول إلى إرهابي. سيحميك من الوقوع في هذا المستنقع، احترامك لذاتك. ما أسهل أن تهتف: «بحبك يا مصر»، غير أنه سيكون من الصعب عليك أن تثبت حبك لها بأن تعلم 5 أميين أو 5 من صبيان الورش القراءة والكتابة. توجد في مصر أحزاب من الصعب حصرها، وهي جميعا «لا تفعل» شيئا، ما رأيكم في أن تقوموا بالقضاء على الأمية. كخطوة أولى بعدها تتفرغون لمحاربة الجهل. أعداؤنا يا سادة هم الفقر والجهل والمرض، وبالقضاء عليهم نقضي على الإرهاب. ali.salemplaywright@yahoo.com