لم يعرف سعيد عقل إلاّ حبّين في حياته: لبنان والشعر. أو أقلّه، في عينيه، كان الحب موجوداً في هذين الكيانين، هو الذي كان يملك عينين زرقاوين لوزيتين برّاقتين، تعكسان زرقة مياه البحر المتوسط وسماءه، ربما في موطن الأرز. كان سعيد، الذي أحببتُ، يظهر في هذه الحياة، في هيئة فارسية مع وجهه الأسدي، وشعره الأشعث، وجبهته المرفوعة، وأنفه الكبير، وصوته الواضح والجهوري الذي يخرج من أعماق جوارحه. وبدلاً من أن يضر هذا المظهر به، كان يعزّز هالة الشاعر لديه، التي بدت وكأنها رافقت منهجه الآسر في شكل طبيعي، وكأنها المساحة التي كان يحتاج إليها كي يتنفس، ويتكلم، ويلقي شعره الذي كان يصل إلى جمهوره المفتون به مثل صوت الجنّي الذي حمله في داخله، في أعماق جوارحه، في هذا المكان الماسي الذي حمل سرّ هذا الحالم المنغلق على نفسه إلى أقصى الحدود. كان هو لغز الإنسان، ذا تعقيد آسر، لغز هذه الكلمة الشفافة والمرهفة، الصريحة والحزينة، التي يلفها ثعبان الغموض، شأنها شأن كافة الكلمات الصادرة عن أكبر المبدعين. وأنا أتحدث عن الثعبان وعن الصمت الخطير. كان صمتاً عميقاً أساساً لإلهام سعيد وكلماته. إنه لغز، لغز جميل، لغز يبقى دوماً على حاله – ونصرّ على ذلك - هو الحب. وفي حالة سعيد عقل الرمزي، تألقت كلمة الحب ولمعت، مع أنها كلمة غيبت نفسها، وحملها سراب جوي ورونق- هو الرونق المتلاشي للأشياء شبه الميتة، التي أصبحت بعيدة وغير مجدية. ونقرأ هذا الشاعر، لا سيما في أوج عطائه حين كتب قصائد ديوانه «رندلى»، تلك المجموعة الشعرية المهمة، لنرتشف مياه نبع اللغة، وننهل من كلماته التي يختارها بعناية، ومن كلّ مجموعة كلمات، وكأنها مجتذبة من امتداد طويل للقوس، من موسيقى شفافة يتناقص صداها وتنغيمها. «ثغر، تحلم به الورود؟ لون: وهم قمري؟ نظرة وها هو الكون ينزلق في الغسق». كلام رزين من دون تكلّف. إيقاع مستقى من أنغام بيانو عزفتها أنامل الشاعر. ما الذي يبحث عن قوله بصوت خافت؟ أي سرّ وجودي؟ يبدو سعيد عقل أقل نقاوةً بكثير حين يعبّر بالنثر، وهو نثر كثيف، تطرّق إلى مشكلات لبنان في أخبار السياسة. وكانت صحف يومية معروفة تطلب من الشاعر كتابة هذه الأخبار التي كانت تصيب الهدف، نثر تطرّق فيه إلى أهم لحظات تاريخ بلدنا في أخبار أخرى، أعطت قراءها الحق في تنفس الصعداء والافتخار. أحياناً ونادراً ما كانت تصدر عنه كلمات جريئة، كما في تلك اللحظة التي خطر له فيها أن يمدح إسرائيل، في كونها نموذجاً لفضائل الغرب في وجه الشرق العربي المستقيل. وكان لدى هذا الرجل، الذي يرغب في لبنان سليم وصارم، شيء من اليمين المتطرف. أسفٌ علينا، وسلام له، هو الذي بات يحلّق الآن فوق هذه الأوهام. لم يكن هذا الممثل الهزلي والمأسوي الذي كان في أحيان كثيرة شاعراً مبتكراً في مواضيعه (مواضيع دقيقة ولامعة) يكره أن يمارس سلطته على ضمائر -وخيالات- الأشخاص الأقل تآمراً وتعقيداً منه. واكتسب سلطة كبيرة بفضل شكل من أشكال النبوة الجنونية، التي اقتنع وأقنع بها، ومارسها في الصحافة اللبنانية في ستينات القرن العشرين وسبعيناته، وحتى في بداية السنوات السوداء للحرب الأهلية، بحيث اختار، بعد أن تأثّر في العمق بهذه المصيبة، البوح صراحة، ومن دون لف ودوران، بوحشية الحرب الأهلية. كان سعيد عقل يَحذَر العرب، مع أنّهم اعتبروه أيقونة إبداع قبلوا بها وبجّلوها، إذ صادقوا عليه لصيغة الشعر العصري التي وضعها، والتي ظلت موضوعة ضمن إطار تطور ضروري. وكان أستاذ جيله (ولد عام 1912) في مواجهة لغة الأشخاص الذين أتوا بعده (أدونيس، يوسف الخال، بدر شاكر السياب، أنسي الحاج وآخرون): المخرّبون. وكان يكره الدول الشقيقة، التي كانت مستعدة في كل يوم أن تتدخل سلبياً في أحداثنا والتي ساهم ركودها، أو نشاطها في زيادة هذا التدخل. وقد أخذ عهداً على نفسه بأن يدير لهم ظهره. وكتب سعيد، الذي ابتعد في قصيدة «يارا» عن اللغة العربية الفصحى واستخدم اللغة المحكية اللبنانية، بعدما حذا حذو ميشال طراد الذي كان من أوائل الذين استخدموها، قصيدته الجميلة «أجمل منك؟ لا»، ونزوات أخرى أكثر خفة، تخالها أجنحة فراشات في المناطق المدارية. لقد جعلنا نحلم. وجعل قلوبنا تتلوى أحياناً من العاطفة. وأضاف كآبة إلى انهيارنا وساهم في تخفيفه. رحل سعيد عقل، رحل عن لبنانه، حاملاً على كتفيه شالاً لم يترك الزمن عليه أثراً، وقرناً من الشعر. أضم إلى صدري شبحاً أظنّه مبتهجاً، لهذا الرجل الكبير. وأندم لأنني لم أنجح في خرق سر شعره، الذي وُضعت كلماته كما في درب التبانة. ملاحظة: ما هو سرك عزيزي سعيد؟ أبداً. الجمال. * نشر هذا المقال بالفرنسية في ملحق «لوريان ليتيرار- كانون الأول (ديسمبر) 2014، وتولى ترجمته القسم الثقافي في «الحياة».