يتأسس المجتمع المدني على أساس مبدأ المواطنة التي تـتحقق عن طريق الهوية المشتركة. وهذه الهوية رمز يكفل التعريف بالمواطن أمام الجهات الرسمية وتقديمه للعالم، إذ يفترض أن تكون هي التي تحدد هويته، وتحوي معلوماته التي تصبح المعرف الرسمي له. وقبل وجود هذه الهويات كان التعريف يتم بطرق تقليدية، لكنها تؤدي دورها في ظل محدودية الحراك الاجتماعي والاقتصادي، فيحصل المواطن على تعريف شخصيته أمام الجهات الرسمية من خلال شيخ القبلية أو نائبه، ويتراضى المجتمع، مسؤولين ومواطنين على هذا الإجراء. وفي مرحلة لاحقة جاءت حفيظة النفوس لتشكل قفزة نوعية في التعريف بالمواطنين وحفظ معلوماتهم وتميـيز هوياتهم، لكن الاعتماد في التعريف على شيخ القبيلة ونائبه ظل ساري المفعول. ورغم أن حفيظة النفوس تمثل مرحلة مهمة في تمثيل المواطن أمام الجهات الرسمية، فإنها لم تكن كافية في صرف النظر عن التقليد الأكبر وهو اللجوء لشيخ القبيلة للتعريف. حضور شيخ القبيلة كان مغريا للجهات المسؤولة إذ يختصر عليها الكثير من العناء في تحديد هويات مواطنيها، وفي متابعتهم، وخاصة عند حدوث مشكلات جنائية أو أمنية. وإذ يبدو الأمر تعاونا مثمرا في ظاهره، لكنه يحد من نمو المجتمع المدني الذي يجد الفرد نفسه مطالبا بالوفاء بالتزامات مزدوج، ومرجعيات مختلفة. ولأن الهوية الوطنية فوق القبليات والمذهبيات، فبين المواطنين من ليس له امتدادات قبلية محلية تمكنه من التواصل مع أي شيخ. هنا يظهر الازدواج في التعامل، فيطالب من لديه مرجعية قبلية بالتزام مرجعيتين، إحداهما تناظر الأخرى. أما من ليست لديه مرجعية قبلية فيتم تسوية أوضاعه بطرق مختلفة أهمها الاكتفاء بمرجعية الهوية الوطنية. شكل هذا الازدواج في المرجعيات مصاعب جمة في المعاملات الإدارية إذ لا تـتـم أغلب المعاملات إلا بتوقيع الشيخ الذي قد تحتاج إلى من يعرفك لديه حتى يستسيغ أن يوقع على أوراقك لاستكمال نشاط تجاري أو زراعي قد يكلف مبالغ كثيرة، كلها تحت رحمة شيخ لا يعرفك سوى أنك تنتمي لقبيلته التي تضم مئات الأفراد. في مرحلة ما بعد حفيظة النفوس أو صدور بطاقة الأحوال تأصلت فكرة المجتمع المدني أكثر أو هكذا يفترض. إذ تحمل البطاقة سجلا واضحا للأفـراد، إضافة إلى أن بيانات الأفراد محفوظة في الحاسب بطريقة يسهل الوصول إليها. وقد جاءت المرحلة الثالثة من إصدار بطاقة الهوية الوطنية لتسجل قفزة نوعية في ضبط المعلومة بالبصمة مع حفظها، وربط الهوية الوطنية بكافة المرافق بما فيها البنوك والمستشفيات العامة والخاصة. وعليه أصبح المواطن معلوم الحضور بالصورة والبصمة لأي جهـة ترغب في التعامل معه. وهو أمر يريح الطرفين. لكن، وبحجم كبير هذه المرة، مازال شيخ القبيلة حاضرا في مسألة التعريف بالمواطنين من ذوي المرجعيات المزدوجة. ولاتساع المدن والقرى وتكاثر السكان لم يعد ممكنا التعرف على الأفراد عبر وسائل تقليدية مثل الشيخ ونائبه اللذين يحملان أكثر مما يتوجب عليهما. فهما يقومان بالتعريف بمحاولة استحضار الجذور العائلية للشخص ومحاولة معرفة عشيرته. وكل ذلك يتم بطريقة المشافهـة دون توثيق أو دراية محكمة بالشخص أو طالب التعريف. إن الهوية الوطنية الحديثة قطعت قول كل شيخ أو نائب. فهي كافية في أداء الدور التعريفي بالمواطنين، فكل مولود له سجله الوطني، ورقم يرافقه طوال حياته وعند موته، وهو رقم أصدق من كل شيخ، إذ كل ما فعل في حياته مدون منذ تطعيماته في الشهور الأولى وحتى ولوجه إلى قبره. فأي إحاطة بعد هذه نحتاج للتعريف بالأفراد ؟! أتصور أن موضوع التعريـف عن طريق الشيخ أصبح مجرد أداء زخرفي تجميلي تزيـن به الأوراق والمعاملات الإدارية. ولعل فكرة المشيخة واستحضار الهيبة تقليد تعشقه بعض الوزارات للمحافظة عليه، وأثـر من الآثار التي نريد لأبنائنا أن يحتفظوا بذاكرة المعاناة من خلال تعريف الشيخ وتفضله بالتوقيع على أوراق ربما لا يعرف قراءتها.. بالهوية الوطنية نستطيع الآن أن نسافر، نستطيع أن نستخرج جواز سفر يؤهلنا للوصول لبلدان العالم. إذن فما هي الغاية من التشبث بشكل من أشكال المجتمع التقليدي الذي لا يتواكب مع بناء المجتمعات المدنية. القضية برمتها غير مفهومة في ظل وجود بطاقة هوية وطنية جامعة مانعة، جامعة للمعلومات، ومانعة لتزييف الهويات.