من عاصمة الرشيد المكتنزة بالجمال، والحضارة، ومن فروع شجرة أسرة بغداديةٍ عاشقةٍ للموسيقى، ضاربةِ الجذور في عمقِ الفن، ولها دور عريق في تاريخ الموسيقى العراقية، والحفاظ على التراث، مؤلف وأستاذ آلتي القانون والسنطور، خبير المقام العراقي والموسيقى العربية: باهر هاشم الرجب، أول مَن دوّن المقام العراقي بالنوتة الموسيقية في كتابه (أصول غناء المقام البغدادي) الذي صدر في بغداد سنة 1985م، وصاحب كتاب: «شجرة سلالم الموسيقى»، والذي يعد المرجع الأهم في تصنيف وتوحيد سلالم الموسيقى العربية، درس العزف على آلة السُنطور وأصول المقامات العراقية والموسيقى العباسية على يد والده الراحل الموسيقار هاشم الرجب، ويعد من قرّاء المقام المتميزين، وأول عازف على آلة السُنطور في بداية الخمسينيات،، التقته اليمامة عبر أثير مضمخٍ بالنغم الأصيل، فكان هذا الحوار: . متى اكتشفت ميولك الموسيقية؟ وما العمل الفني الذي شكل انطلاقتك الحقيقية؟ - كان لدور الأسرة الفنية التي ترعرعت بين أكنافها أثره الكبير في خط مسيرة حياتي، إذ وجدت فن الموسيقى يسري في عروقي بالوراثة، حتى أنني كنت أساعد الوالد - رحمه الله - في دوزان آلة السُنطور الخاصة به، وكنت آنذاك في الخامسة عشرة من عمري ولم أكن بعد قد درست الموسيقى، ففي تلك الفترة وتحديداً عام 1966 اكتشفت موهبتي الموسيقية وحبي لهذا الفن الجميل، وفي عام 1967 شاركتُ الوالد بالعزفِ على آلةِ السُنطور أثناء أدائه لمقام الأوج كاملاً مع أغنية «لا تظن عيني تنام»، بمشاركة كل من إخوتي صهيب على آلة الجوزة، ومهنَّا على آلة الرق، حيث قُدّم العمل من على قناة تلفزيون العراق آنذاك، ومنها توجهت الأنظار إليّ فكانت انطلاقتي الفنية، وبداية مرافقتي للوالد في هذا المجال، وبسبب حبي اللامحدود للموسيقى اخترت معهد الفنون الجميلة في بغداد عام 1968 بغية دراستها فدرست آلة القانون لجمالها أداءً وشكلاً ومن يومها لم تفارقني آلتي. . هلا أعطيتنا تعريفاً للمقام العراقي؟ أصوله وأركانه؟ ولِمَ اختار باهر الرجب فن المقام العراقي دون غيره؟ - اخترت المقام العراقي بالوراثة، بعدما تعايشتُ معه عائلياً، من خلال الوالد وشغفه بهذا التراث الأصيل الجميل، فكان أن ملكني وملك وجداني. المقام العراقي هو: الغناء الكلاسيكي المتكون من مجموعة الألحان الغنائية والمؤلفات الموسيقية التقليدية المبنية على قواعد وأصول (أركان المقام)، ولقارئ المقام حرية الارتجال في الأداء الغنائي ضمن ضوابط وحدود سير كل مقام. وللمقام بداية ونهاية وبينهما انتقالات لحنية غنائية من قرارات وميانات وقطع وأوصال يرتكز بناؤها على قواعد مثبّتة. ولقد اختص بهذا اللون الغنائي أهل بغداد والموصل وكركوك والبصرة مع اختلاف في الصياغة والتسمية. وأركان المقام هي: 1 - البداية فإذا كانت قصيرة سُمّيت (بدوة)، وإذا كانت طويلة سميت بالتحرير. 2 - القطع والأوصال ومن هذه الأوصال ما هي أشبه بجسور ربط للانتقال والتنويع كي لا يكون المقام مملاً. 3 - الجلسة وهي الاستقرار على مستقر المقام تعقبها الميانة، ولا يُعكس الأمر. 4 - الميانة أو الميانات وهي جمل لحنية موقعها في الأوكتافات العالية من المقام وتختلف أطوال الميانات وقصرها بحسب المقامات المتعارف عليها. 5 - القرار وهو النزول إلى مستقر المقام. 6 - التسليم وهو نهاية المقام. . إلى أي مدى استطاع الفن العراقي الحفاظ على خصوصيته وهويته في العصر الحديث؟ - الفن الموسيقي والغنائي العراقي كانت له بصمة ونكهة خاصة تميّزه عن كل دول المنطقة وهي (البصمة) ما زالت موجودة على الساحة اليوم، لكنها برأيي ليست عراقية نقية كما كانت، إذ تطعمت باللون الخليجي، والتركي، وحتى الغربي، لأسباب عديدة أهمها: وجود غالب المعنيين والمختصين بهذا الفن من ملحنين وشعراء ومطربين في دول غير العراق، وهذا بالتالي يُشتت المُكوَّن المتماسك للأغنية العراقية من كلمات ولحن وإحساس، إذ كانت الأغنية تُنتج في أجواء عراقية صرفة، وكان فريق العمل بهذا المجال لا يهتم للكم الإنتاجي أو التجاري، إنما لنوعية العمل وجودته ومن هنا كانت نكهتها، أما اليوم فالوضع تغير وفقدت الأغنية العراقية كثيراً من ميزاتها، وتهجّن كثير منها بسبب الأوضاع غير المستقرة للعاملين بهذا المجال، والتركيز على الشهرة والربح دون الالتفات إلى الذوق العام والمستوى الفني. لكنّ هذا لا يعني اندثارها فهناك كثير من الإخوة الفنانين ملحنين كانوا أو شعراء أغنية أو مطربين ما زالوا مواظبين بالحفاظ عليها ونشرها على الساحة الفنية رغم كل المعوقات التي تواجه الفن الغنائي والموسيقي بالعراق، وأنا واثق تماماً أنها ستستعيد عافيتها ومكانتها المعروفة مستقبلاً. . في عصر الإيقاع السريع، الفيديو كليب، وما يسمى بالأغنية الشبابية، ألا ترى أن هنالك ضرورة لتحديث المقام العراقي بحيث يبقى حاضراً، ومواكباً، وهل لكم جهود في هذا المضمار؟ - لا ضير في أن يُحدَّث المقام شرط ألا يُمس جوهره ولا يخرج عن أركانه وخصوصيته وقواعده، وهذا ما طرحته وولدي د. رامي قبل سنوات طويلة ودأبنا على العمل به منذ ذلك الوقت. والتحديث الذي نقصده ونعمل عليه لا يعني الفيديو كليب أو إدخال آلات موسيقية صاخبة كما يتصوره البعض، إنما ناتج عن طريق دراسة وفهم بُنية المقام والإلمام به وبقواعده علمياً وبصورة دقيقة، ومن ثم العمل على تعريف العالم بهذا التراث الفني الراقي. والحقيقة أن هذه الفكرة صعبة وحساسة جداً؛ لذا يتوجب تقديمها بأفضل صورة. وفكرتنا تكمن في عزف ومرافقة الأوركسترا للمقامات ضمن حدود قواعده وخصوصيته مع إدخال الآلات العربية المعروفة المرافقة للمقام العراقي كالقانون والناي والعود والجوزة أو حسب ما يتطلب العمل من آلات. أما صعوبة العمل فتكمن في كتابة ودقة النوتة الموسيقية للمقام وتقديمها بشكل سليم ومتقن للأوركسترا. ولله الحمد فإن التأليف الموسيقي للأوركسترا هو من ضمن دراسة واختصاص ولدي د. رامي لذلك أصبحنا نحن الاثنان فريق عمل متكامل كل ضمن اختصاصه، هو بمجال كتابة سكورات الأوركسترا والتوزيع الآلي لها والإشراف على دقة سير العمل فيها، وأنا بمجال المقام وقواعده وتركيبته وطريقة أداء قارئ المقام ومتابعته. فالفكرة موجودة والعمل جاهز ومتكامل وكل ما ينقصه هو قارئ مقام عراقي مثقف موسيقياً يجيد التعامل مع فرقة كبيرة كالأوركسترا، ويجيد قراءة المقام بشكل يتناسب وهذا العمل الكبير وسمعة وتاريخ المقام العراقي. وبالمناسبة فإن رسالتي الماجستير كانت في هذا الموضوع تحديداً، وتحت عنوان: (التوظيف الأوركسترالي في بنية المقام العراقي) نلت فيها درجة الامتياز من الجامعة العربية المفتوحة لشمال أمريكا.. . صدرت لك كتب تعد مراجع مهمة في الموسيقى العربية، آخرها: شجرة سلالم الموسيقى العربية، هلا أعطيت القارئ العربي إضاءة حول هذا الكتاب؟ - تفتقر المكتبة الموسيقية العربية مع الأسف لكتب علمية وتنظيرات وقواعد تتناول نظريات الموسيقى وبالطبع أقصد العربية، ولقد عانيت هذا الأمر مذ كنت طالباً في معهد الفنون الجميلة، لذا دارت في رأسي فكرة تأليف كتاب يساعد الطلبة على فهم موسيقانا العربية ودراستها بشكل سليم ودقيق ضمن قواعد ونظريات منظّمة، فكان أن بدأت به ولم أكمله بسبب ظروف الحياة آنذاك لكنني وجدت الوقت المناسب لإتمامه في ألمانيا، حيث أقيم وعائلتي. لقد استغرق العمل بالكتاب أكثر من ست سنوات متتالية ليل نهار بين مراجعات وبحوث وتدقيق ومقارنة ووضع قواعد وتجربتها وتحليل نتائجها لحين جاءت كل النتائج متطابقة مع أفكارنا وتحليلنا والحمد لله، وكان ذلك في عام 2006، حيث أصدرنا كتابنا شجرة سلالم الموسيقى العربية؛ وهو أول كتاب في الوطن العربي يتناول نظريات وعلوم وقواعد سلالم الموسيقى العربية وتوحيدها وتحليلها بصورة منظمة. احتوى الكتاب بين طياته على كل ما ينقص المكتبة الموسيقية العربية في مجال النظريات وكل ما هو جديد ودقيق ويخدم الموسيقى العربية والطالب والمختص والأستاذ. فقد احتوى مثلاً على: 1 - توحيد السلالم الموسيقية العربية واشتقاقها وفق نظام جديد. 2 - ابتكار أجناس وسلالم موسيقية عربية جديدة 3 - التعرف على سلالم الكنائس. 4 - ابتكار نظام جديد وإدراج دليل لمعظم سلالم الموسيقى. 5- تحليل السلالم بالنوتة الموسيقية. 6 - إضافة قواعد ونظريات ومصطلحات وتعريفات جديدة. 6 - تحليل سلالم الموسيقى بالنوتة الموسيقية. 7 - وضع قوانين جديدة للموسيقى العربية لم يسبق إليها أحد من قبل. هذا وهنالك أسطوانة مضغوطة (سي دي) تعليمي يحوي تسجيلاً لكل النوتات الواردة بالكتاب. وبالمناسبة أود الإشارة إلى أننا أصدرنا كتاب سماعيات من الشرق للغرب وهو يحتوي على مؤلفاتنا الموسيقية وتضمّن ست سماعيات وهو الجزء الأول. . قدمت عدة حفلات موسيقية خارج العراق، كيف تقيم قبول المستمع العربي، والغربي للمقام العراقي، وهل ترى أنه فنٌ استطاع اجتياز حدود الرافدين؟ - نعم لاقى المقام العراقي استحسان وحب المستمع العربي والغربي فبالإضافة لكونه تراثاً عريقاً فهو جميل ورقيق ويداعب أوتار القلب؛ ولهذا كان له أثره على سمع ووجدان جمهور المستمعين في الوطن العربي، هذا الجمهور الذي عشق المقام والأغنية العراقية، وتذوّق طعمها من عقود طويلة، لكني أطمح بأن يرتقي المقام أكثر، ويعبر هذه الحدود ليصل للعالمية إن شاء الله. . ماذا عن العودة إلى العراق، ومواصلة مشوارك من حيث ابتدأ؟ - وهل تطاق الغربة؟، إن تفكيري بالعراق الحبيب هو دافعي الأكبر للمضي قُدماً لرفع اسمه عالياً بين دول العالم ضمن مجال اختصاصي، ولهذا أعمل جاهداً على أن أترك له ما يخلّده من بعدي من بحوث وكتب وإصدارات ومؤلفات، على رفوف المكتبة الغربية قبل العربية، ولطالما فكرت بالرجوع إليه ومواصلة مسيرتي الفنية التي بدأتها من هناك، ورؤية الأعزاء من الأهل والأصدقاء والفنانين لكنه بقي حلماً مع الأسف بسبب الظروف القاسية التي يمر بها البلد، وأخشى أن يدوم هذا الحلم فلقد اشتقت لبغداد وشوارعها ولذكريات الطفولة ولكل مؤسسة عملت فيها من قبل. أتمنى من الله أن يعم الأمن والأمان على العراق، وأن يحل السلام والمحبة بقلوب أبناء شعبي ليرجع العراق بعافيته، ونرجع لأحضان العراق الحبيب فنبنيه من جديد ليزهو بنا ونزهو به.