منذ أن أطلت علينا بعض الفضائيات العربية والعقل العربي، وبالذات عقول الناشئة، يمر أو يعيش أزمة ارتباك خطيرة. بطبيعة الحال لم تضع تلك القنوات أو بعضها في حسابها مراعاة العقلية المتلقية، بمعنى أنه لا توجد إستراتيجية تضع في حسابها احترام تلك العقلية وذلك بوضع صيغة منهجية تحاول خلق أو صنع طرح متوازن يأخذ في اعتباره اختلاف شرائح المجتمع ثقافياً وفكرياً، وأخلاقياً. لقد ظلت تلك القنوات -ولا تزال- محقونة بما لا يتفق أو بما لا يخدم ويغذي العقل، بل إنها تضع العقل في المرتبة الأخيرة، أو المهملة من منهجها. هذا إذا اعتبرنا أن هناك منهجاً. فهي تقوم على التهويش، وتحريك العواطف، وتحريض المشاعر، واستلاب، واجتذاب عقول الناشئة بالغثاء وربما بالتفاهة، فهي تحرك كل شيء في الجسد إلاّ العقل، ولهذا فبعض القائمين عليها، ومقدمي برامجها هم صفوة من المتخصصين في كل ما يدعو إلى تسفيه العقل وانحطاطه، وأرجو ألا أُتهم بالتحامل أو القسوة أو عدم الإنصاف، أو النظر إلى الصورة السلبية فقط.. أبداً فالمتتبع المنصف لكثير من هذه القنوات قد يتفق معي في ما ذهبت إليه، فأين هي البرامج العلمية التي تقدمها هذه القنوات؟ ما هي البرامج التربوية؟ أين البرامج الثقافية؟ مبالغ هائلة تصرف على برامج فيها إهانة ليس للعقل فقط بل أحياناً للمشاعر والذوق، فيما عقول الناشئة ليست بهذا الرخص ويجب ألا تكون وسيلة للمتاجرة بكل ما هو رخيص. إن وسائل ووسائط الإعلام كافة هي وسائل تربوية شئنا أم أبينا. أي إن لها دوراً مهماً وخطيراً في تربية النشء. فالجريدة، والمجلة، والتلفاز، والقناة الفضائية، كلها مدارس يتلقى منها الناشئ دروسه اليومية ولها تأثير بالغ في تكوين سلوكه ومنهجه، ورؤيته للحياة والمجتمع والناس. فهل هذه الوسائل، وبالذات بعض تلك القنوات، وضعت ذلك في حسابها؟ في وسائل الإعلام الغربية برامج هائلة وعظيمة لتوعية النشء وتثقيفه. بل هناك برامج متخصصة تخاطب عقول الأطفال، ونفسياتهم وتهيئهم لمواجهة الحياة بطرق علمية مدروسة، ومنضبطة يقوم عليها متخصصون أكفاء، فهل يوجد لدينا شيء من ذلك؟ ساعات طويلة من الردح، والزعيق، والمقابلات الرديئة والأغاني الفجة الرخيصة تتوغل رؤوس الناشئة من خلال تلك القنوات. وجوه بليدة من مقدمي تلك البرامج عارية من الذوق ومن اللغة، ومن الثقافة بل هي عدوة للذوق، واللغة والثقافة، بل إنها لتمارس احتقاراً للثقافة واللغة إلى درجة أن غالبية نشرات الأخبار لم يعد فيها أي مراعاة لضوابط اللغة فاختلط العامي بالفصيح في مشهد هزلي يدعو للرثاء، بل إن بعض تلك القنوات صارت تذيع أخبارها بالعامية المغرقة في السوقية بلا أدنى خجل أو حياء. صحيح أن هناك بعض القنوات تقدم بعض البرامج المفيدة الجيدة، ولكن ذلك يعتبر استثناء ولا يمثل شيئاً أمام هذا التيار الجارف. بعد هذا كله هل فكرنا حقاً في أمر أطفالنا وأجيالنا القادمة؟ هل سألنا ماذا سيكون لون تفكيرهم؟ وماذا سيكون لون ثقافتهم. ولغتهم؟ كيف ستشكل العقلية الجمعية للنشء القادم في ظل هذا المزيج الهائل من التشويه؟ وهل سيظل مصير هذا النشء مربوطاً ربطاً قسرياً بتلك الحفنة من الجهلة واللامبالين ومن تجار التجهيل ومروجي السخف؟ إنه شيء لا يدعو إلى التفاؤل، فمئات الملايين التي يتباهى بصرفها بعض القائمين على تلك القنوات لا تصب في مصلحة الوطن بل إنها إهدار مالي وتربوي وأخلاقي - لا أسيء الظن وأقول إنه مدروس - تعمل على تشويه ناشئة الوطن وإصابته بالشلل الذهني. كل الذي أخشاه أن ينتج من ذلك عقل جيل مشوه ينعكس سلباً على المجتمع والأمة ثقافياً، وسلوكياً، وأمنياً، في الوقت الذي نسعى فيه ونطمح كبقية الأمم التي تهمها صناعة الأجيال إلى أن ننتج عقلاً جمعياً راقياً ومبتكراً وخلّاقاً ينفع نفسه ووطنه، فالناشئة هم صُناع المستقبل وهم الذين يشكلون إطاره الحضاري. المؤكد أن تلك القنوات إن ظلت على وضعها وحالتها التي لا تسر، فإنها لن تساهم في صنع جيل خلاق، بل جيل مشوّه ومعوق.