بقدر ما مرت الانتخابات التشريعية التونسية، بأقل ما يمكن من الانحرافات والسلوكيات المحبطة، بقدر ما عرفت الانتخابات الرئاسية بعض الظواهر اللافتة للانتباه والكاشفة عن انفصام في الثقافة السياسية سواء للمتنافسين على قصر قرطاج أو بعض الناخبين. ومن الظواهر الأكثر مدلولية، نشير إلى ما يمكن وصفه باستثمار بعض المنافسين لورقة العصبية الجهوية ومحاولة إثارة العواطف الكامنة وتجييشها. وهي ظاهرة، خلفت استياء وإحباطا عند النخب عامة وفئات عريضة من الشعب، باعتبار أنها تمثل تراجعا ودليلا على أن الثقافة السياسية في تونس لم تتخلص من رواسبها المعرقلة لتطورها، رغم حدوث الثورة وكتابة دستور جديد وإجراء انتخابات في مناخ تسوده المنافسة والحرية. ولقد تمظهر استثمار ورقة العصبية الجهوية في تصريحات متشنجة عدة من طرف المتنافسين الأوائل على الرئاسة. ووجدت هذه التصريحات صدى لدى بعض التونسيين؛ إذ أظهرت شبكات التواصل الاجتماعي وجود أشخاص تفاعلوا مع خطاب التقسيم بإيجابية، من ذلك الحادثة التي تم استنكارها بشكل واسع، والمتمثلة في قيام بعض الأشخاص المجهولين، بنشر صورة خريطة تونس وهي ممزقة إلى أجزاء ومقسمة بين شمالها وجنوبها على أساس مقياس الانتماء السياسي. إن ما يهمنا في كل هذا حقيقة، هو أن الثقافة السياسية في تونس هشة، وقابلة للتأثر بمضامين، هي في تعارض كلي وجوهري مع خطاب المواطنة. فكل النخب في بياناتها وتصريحاتها، تتشدق بمسألة المواطنة وتخصها بالخطب الرنانة والحماسية، ولكن على مستوى السلوك السياسي والممارسة والمنافسة السياسية، تسقط ورقة التوت ويلجأ اللاوعي السياسي إلى توظيف العصبية القبائلية والجهوية والدينية وغير ذلك من العصبيات، التي ترجعنا إلى نقطة الصفر وإلى جوهر التخلف السياسي والثقافي. ومثل هذه الظاهرة تدل أيضا على أن العصبية الجهوية، التي عوضت العصبية القبائلية والعشائرية في تونس، متغلغلة إلى درجة أنه مع مرور قرابة 6 عقود على تاريخ الاستقلال في 1956، لم تقض عليها، كما ذهب في ذهن كل من اعتقد في تحديث تونس وقطعها أشواطا مهمة في حداثتها. فكما نعلم، فإن المشروع التحديثي البورقيبي، الذي قام على القطع مع ثقافة القبيلة التي أعيد إنتاجها في شكل العصبية الجهوية، وأصبحت البلاد مقسمة في التمثلات الاجتماعية إلى جنوب وساحل و«بلدية» (أصيلو العاصمة) وهي تقسيمات تفعل فعلها في العلاقات الاجتماعية. ولأن الساحل احتكر الحكم والسياسة منذ تاريخ بناء الدولة الوطنية، فإنه بعد حصول الثورة وإجراء انتخابات المجلس الوطني التأسيسي، تم اختيار السيد المنصف المرزوقي كتعويض وترضية رمزية لأهل الجنوب، الذين كان قصر قرطاج موصدا أمامهم لصالح نخب الساحل التونسي السياسية. ففي هذا السياق من الغليان السياسي واللهث وراء السلطة، استنجدت بعض الأسماء المتنافسة، بالرأسمال الرمزي الجهوي معتبرة إياه ورقة ذات مفعول سحري انتخابيا. أيضا مسيرة التنمية في تونس طيلة العقود الـ6 الماضية، فشلت في تجفيف منابع العقلية الجهوية، لأن التنمية لم تكن عادلة ومعممة في تونس كافة. وليس صدفة أن تندلع الثورة التونسية من الجنوب، الجهة المحرومة والأقل مرافق والأكثر فقرا وبطالة وتهميشا. لذلك، فإن العقليات لا تتغير لأن الساسة يريدون ذلك، بل تتغير عندما يتغير الواقع الاقتصادي، المنتج لمظاهر التخلف الثقافي، كازدهار ثقافة العشيرة والجهوية.. وكلها ثقافات تعيش في اللاوعي ومسكوت عنها، وأيضا – وهنا مكمن الخطر – مهددة للثقافة الوطنية ومانعة لنشوء ثقافة المواطنة الحقيقية. وإذا كان تفاعل بعض الفئات الاجتماعية مع مثل هذه المضامين السلبية، التي أقل ما يقال عنها، إنها ضد التقدم وضد فكرة المواطنة التي يرنو إليها التونسيون، يمكن فهمه – هذا التفاعل - عندما نربطه بعوامل اجتماعية، فإن ما صدر عن بعض المتنافسين، يعد أخطاء رمزية جسيمة في حق الثورة والدستور، حيث إن المنطق يقول إن كل مترشح للرئاسة يجب أن تتوفر فيه كل مقومات الثقافة السياسية، القائمة على فكر المواطنة والديمقراطية وهيبة الوطن والدولة وكرامة المواطن، لا النبش المصلحي الذاتي في رواسب، هم الأولى بمحاربتها لا بإثارتها. طبعا لا شك في أن ظاهرة توظيف النعرات الجهوية والعشائرية ظاهرة عامة ومستفحلة في البلاد العربية الإسلامية، وأن تونس تعد الأقل استفحالا. ولكن مع ذلك، فإن المشكلات الثقافية ذات الصلة بالعقليات لا تزال تشكل عوائق كبيرة أمام تطور مجتمعاتنا. بل إن استمرار ثقافة العشيرة والجهوية ذاتها، هي ضد مفهوم الدولة والجمهورية، إضافة إلى كونها دليل تردد ثقافي وانفصام وانشطار، يضعف آفاق المجتمعات العربية وحظها في النهوض. كما أن استعداد مجتمعاتنا الدائم للتقسيم بين علمانيين وإسلاميين وجنوبيين وشماليين وغير ذلك، يكشف عن بنية ثقافية ونفسية هشة وعدم حسم الذات العربية لأمرها ولخطوتها ولمفهومها للأشياء والقيم.