كنت ولا أزال مهتمًا بظاهرة التمييز العنصري في أمريكا، ونشرت مقالات عدة في هذه الصحيفة الغراء وصحف سعودية وعربية أخرى حول هذا الموضوع خلال ثلاثين عامًا خلت، وتلت عودتي من أمريكا بعد حصولي على الدكتوراة في علم اللغة التطبيقي من جامعة جنوب كاليفورنيا في لوس أنجلوس، وكان من أسباب اهتمامي الشديد بهذا الموضوع أنني درست عدة مواد في مرحلة الدكتوراة تتعلق بلغات الأقليات في أمريكا Minority Languages، وهي تقع في دائرة اهتمام الأستاذ الكبير الذي أشرف عليّ في رسالة الدكتوراة البروفيسور: R. Macias الذي تعود جذوره إلى إحدى الأقليات المهمة جدًا في أمريكا وهي عرقية "اللاتينوز" وتحديدًا: "التشيكانوز"، وهم الأمريكيون من أصول جنوب أمريكية، الناطقون بالأسبانية لغة أمًّا، والإنجليزية لغة ثانية. وكثير منهم مكسيكيون في أصولهم ومنهم البروفيسور ماسياس، وعليه فقد أطلعنا على الكثير من الكتب والمؤلفات الصادرة في السبعينيات والثمانينيات حول مشكلات الأقليات وتحديدًا التمييز العنصري ضدها، بدءًا بالهنود الحمر، ومرورًا بحركة مارتن لوثر كنج جونيور "لدي حلم" I have a dream وما صاحبها من تمييز ضد السود خصوصًا والملونين عمومًا: Colored، ووصولًا إلى الثمانينيات التي يفترض أن تكون العنصرية قد زالت خلالها. وعليه، فقد تكونت لدي ثقافة جامعة عن هذه الظاهرة جعلتني أكتب عشرات المقالات حولها، ودفعتني لأصدر كتابًا متخصصًا عنوانه: "أمريكا سري للغاية". صدر عن دار القادسية عام 1994م. ونفدت طبعته بالكامل ضمنته كثيرًا من معلوماتي ونقولي المؤثقة عن العنصرية في أمريكا، إضافة إلى مشاهداتي الشخصية خلال عيشي في ولاية كاليفورنيا لحوالى ثماني سنوات، وهي ولاية مختلطة الأعراق والثقافات: Multi Cultural. وشهدت فيها أواخر ظواهر التفرقة العنصرية وسجلتها في الكتاب بالكلمة والصورة، ويعج الكتاب بصور نادرة فوتوغرافية تبين الفصل العنصري في أمريكا قديمًا وحديثًا. وفي مقالاتي الحديثة جدًا، بينت أن حلم مارتن لوثر كنج جونيور قد تحقق تمامًا مع مطلع الألفية الثالثة ونال الملونون عومًا، والسود خصوصا حقوقهم كاملة في أمريكا، ولا أدل على ذلك من وصول مرشح أسود إلى سدة الحكم في أمريكا لأول مرة في التاريخ وكان ذلك إلى عهد قريب جدًا: الستينيات ومطلع السبعينيات، يعد حلمًا بل كابوسًا، ولأني أسافر إلى أمريكا مرة أو مرتين في العام، فقد لاحظت كما لاحظ غيري من المهتمين بقضية الفصل العنصري، أنه زال تمامًا في أمريكا على المستوى الرسمي وإلى حد بعيد على المستوى الشعبي، وذلك لأسباب بدهية جدًا، أهمها أن السود والملونين من لاتينيين وآسيويين وقوقاز وشرق أوسطيين وغيرهم لم يعودوا أقلية، بل هم اليوم الغالبية والأكثرية، وأصبح البيض الأصليون: العائدون إلى أصول أوروبية غربية خصوصًا، هم الأقلية دون أدنى شك. وهذه الفئة هي التي كانت متهمة قديمًا بالتمييز ضد السود والملوّنين حتى الستينيات كونها في ذلك الوقت الأقوى والأثرى والأكثر تعليمًا. أما اليوم، فتكاد هذه الفئة تكون الأفقر والأضعف في ظل موجات الحرب على التمييز العنصري التي شهدتها أمريكا خلال خمسين عامًا مضت، وقرأت مقالات عدة عما يسمى اليوم: Reversed Discrimination، أو التمييز العنصري المقلوب، إذ يميز في المجتمع الأمريكي اليوم ضد البيض خصوصًا، ومن الأمثلة الصارخة لذلك التمييز أن الأبيض محظور عليه الحصول على قسائم الطعام: Food Coupons التي توزع على الفقراء لشراء الطعام، شريطة أن يكونوا من الملونين في الوقت الذي ينتشر فيه الفقر والجوع والتشرد بين صفوف البيض اليوم، فتراهم على قارعة الطريق يستجدون الناس ويطلبون الطعام أو أقل المال، وهنا أصل إلى ما حدث قبل شهور قليلة في مدينة فرجسون بولاية ميزوري من شغب وتظاهر ضد التمييز العنصري بعد مقتل شاب أسود على يد شرطي. وقد عاد الشغب بشكل أسوأ الأسبوع الماضي بعد قرار هيئة المحلفين تبرئة الشرطي ما أدى إلى غضب الشارع وحمل لافتات مثل: "My color is not a threat" "لوني ليس تهديدًا"، وكانت ردة فعل مبالغًا فيها كثيرًا، ذلك أن اللون السائد في أمريكا اليوم بمعظم ولاياتها هو اللون الداكن، سواء ببشرة سوداء أو شديدة السمرة، واللون النادر جدًا هو اللون الأبيض. خلاف كل دول التاج البريطاني مثل كندا وأستراليا التي تقلل كثيرًا من نسبة السود المهاجرين إليها فلا يصلون إلى 1%. ويبدو أن السنوات القليلة المقبلة ستشهد سطوع نجم الملوّنين في أمريكا أكثر فأكثر وخصوصًا اللاتينوز، وسيندثر العرق الأبيض فيها إلى الأبد. ما يشي بتحوّل جذري في كل سياسات أمريكا الداخلية والخارجية، خصوصًا سياستها تجاه إسرائيل. وإن غدًا لناظره قريب. Moraif@kau.edu.sa للتواصل مع الكاتب ارسل رسالة SMS تبدأ بالرمز (53) ثم مسافة ثم نص الرسالة إلى 88591 - Stc 635031 - Mobily 737221 - Zain