ليست القُدوة دائما بوصلة إيجابية يستفيد منها من يقتدي ممن يُقتدى به. فكثيرا ما يدفع هؤلاء ضريبة اقتدائهم بأولئك إما لحسن ظنهم أو لسوء تقديرهم. والثمن يكون باهضا عندما يكون الحديث عن الجامعات التي ينتظر منها المجتمع أو يتوقع أن تكون هي القدوة بذاتها وهي من يُقتدى به، لا أن تضع لها سقفا منخفضا رسمته جامعة أخرى. جامعاتنا المحلية في أغلبها تدور في فلك ثقافة جامعة الملك سعود مباشرة أو غير مباشرة، وسواء كانت تعرف تلك الجامعات وتعي ذلك أو لا. ربما هو تقدير للسن والعمر أو هو مراعاة للتاريخ والإنجاز الكمي لجامعة الملك سعود. لا أعيب هذه الجامعة وقد تخرجت منها شخصيا، وهي بغنى عن إطرائي لها وثنائي عليها. لكن الثقافة التي سادت هذه الجامعة في السنوات الأخيرة هي ثقافة المال والإعلام. فلا أظن أن ثقافة البحث العلمي تلتقي مع ثقافة المال والإعلام. فكلنا يتذكر البالونات التي انتفخنا بها وطرنا معها طربا ونشوة، أصبح بعدها الحلم سرابا فانفجرت تلك البالونات إعلاما ومالا وتبين أن الحمل كان كاذبا. كانت الفرصة سانحة للجامعات الناشئة في المملكة بأن تتشكل كل واحدة منها بتجربتها التي تطور من خلالها رؤيتها وتنضجها في مناخ علمي وبحثي وأكاديمي عالمي بالشراكة مع جامعة عالمية بارزة أو أكثر، وكانت الفرصة أن تكون لدينا فعلا 25 جامعة و25 نموذجا و25 تجربة لكن تأثير ثقافة الأخ الأكبر كانت أقوى وأبلغ أثرا وتأثيرا في أغلب الجامعات المحلية الأمر الذي جعل تلك الجامعات نسخة واحدة في الغالب لا تخرج كثيرا عن ثقافة الأخ الأكبر، ولوجود ذلك الحبل السري الذي يعمل أحيانا من جهة واحدة وأحيانا من جهتين. ولا عجب فثقافة الأخ الأكبر ليست فقط على الجامعات، لكنه كان على مفاتيح المال والأعمال والوجاهة الاجتماعية، حتى استقر ما يفوق المئة كرسي علمي في غياهب هذه الجامعة وأغلب الأوقاف كانت تصب في أصول هذه الجامعة وأغلب الجمعيات العلمية في أحضان هذه الجامعة، لدرجة أن بعض الجامعات تكاد تخلو من أي كرسي إلا مؤخرا وهي تخلو تماما من أي جمعية علمية أو وقف من الأوقاف. بعد أن ظفر الأخ الأكبر بكل ذلك. لأسباب مالية وإعلامية. فماذا كانت النتيجة خلال الخمس سنوات؟ جعجعة إعلامية بلا طحن علمي كالمعتاد. إن ثقافة البحث العلمي والكراسي العلمية على وجه التحديد بحاجة ماسة وعاجلة لإعادة الدراسة وإعادة توزيعها بما يكفل النأي بالعملية البحثية عن ثقافة «الحفلة» والحيلولة دون تحويلها إلى نموذج مالي آخر على نمط «غزال». ندرك تماما أن هذا ليس هو السبب الوحيد وبأن هناك عوائق كثيرة تقف عثرة في طريق انطلاق ثقافة البحث العلمي بما يخدم حل مشكلاتنا وتناول اهتماماتنا المحلية والإقليمية والدولية، وندرك أيضا أن بين جامعاتنا من هم مهووسون بالإعلام والأضواء والبهرجة أكثر بكثير من جامعة الملك سعود خاصة بعقد المؤتمرات والندوات بلا لون ولا طعم ولا رائحة، وما يجعلنا نخص جامعة الملك سعود هو فعلا محورية تأثيرها وأهمية تصحيح ثقافة البحث العلمي ووضعه في مساره الصحيح، فضلا عن تاريخها الحافل بالإنجازات فيما مضى. إن الجامعة التي لا تقود المجتمع إلى الأمام هي عبء على المجتمع الذي تعيش فيه، ولا يمكن للجامعة أن تبقى أبد الدهر على الشاطئ، فلا بد أن ترسو على اليابسة وتتعايش مع من حولها وما حولها. وإن الجامعة التي لا يكون البحث العلمي والدراسات أحد ركائزها الثلاث، إنما هي ثانوية وليست جامعة. نتطلع أن ترتفع جامعاتنا لسقف التطلعات وأن تضع مجتمعاتنا ووطننا على السكة الصحيحة، وأن تملأ الفراغات، وتقطع الطريق على انتفاخات الوهم وفقاعات الخرافة وبالونات الجهل والتقزم والتشرذم.