لم أعد قادرا على التسليم للنقد الأدبي الحديث. فسواد المتنفذين في سوحه، يجترون المتداول، ويقرؤون عن الأشياء، ولا يقرؤونها. وكم هو الفرق بين أن تَفْري الأشياء، وأن تُفرْى لك، والمُعِفُّون عن الجاهزيات، يجترحون لأنفسهم. [فَاللَّيْثُ لَيْسَ يَسِيْغُ إِلاَّ ما أَفْتَرَس]. هذا فضلا عن المجاملين، والمتشايلين، والمتقايضين، الذين يقولون منكرا من النقد وزورا. والواثقون بإمكانياتهم، يَمُدُّون أرجلهم، لأنهم لا يمدون أيديهم لمتفضل يجود عليهم بالحشف، وسوء الكيل. و[ابن عوف] -رضي الله عنه- رفض العطاء، وقال كلمته المشهورة للأنصاري المؤاخي: [بارك الله لك في مالك، وأهلك. دلوني على السوق]، فكان بهذه العزمات من أغنياء الصحابة. لقد عَوَّلْتُ في مطلع حياتي على جاهزيات خَدَّاعة. وحين شَبَّتْ قُدُراتي عن الطوق، أدركت أن فيوض المشاهد وليدة تقصير، أو خطأ، أو مجاملة. فحين قرأت الأشياء من مصادرها، ونفيت ركام الجاهزيات عن كاهلي، تهاوى شموخ المسَلَّمات، وبدت لي القلاع الورقية. وجدت هذا في حقول معرفية كثيرة، كان النقد الأدبي أحد هذه الحقول. ولربما يكون أهونها أثراً، وأقلها خطراً. لقد تكشف لي زيفٌ في الدين، وزيفٌ في السياسة، وزيفٌ في الأخلاق. بل رأيتني أحَدَ بناة هذا الزيف، لأنني سَلَّمْتُ -إذ ذاك- لباديَ الرأي، وكنت في بعض لحظات الضعف من الذين وصفهم [طه حسين] بالمترفين المتخففين الذين يندلون ندل الثعالب. ولم أكن من الجادين المحَكِّكِين، المنَخِّلين، الذين يتوسلون بمنهج الشك [الديكارتي]، أو التساؤل [الإبراهيمي]:- وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي . وأولى خطوات الرَّشَد، القدرة على نقد الذات، وتقويمها، والرجوع إلى الحق، وعدم التمادي في الخطأ. هذه الشجاعة، لو تلبسنا بها، وعَمَّقنا الثقة بالنفس، لكان بإمكاننا تصحيح الأخطاء أولا بأول، وعدم التمكين لتراكم التجاوزات، والإذعان للمسلمات. إن فينا من يتفانى في الدفاع عن ثوابت، ومسلمات، تمثل الزيف. وكم هي سيئة عقدة الأبوية:- إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ . وكم يمر بالأمة من مصلحين، بَشَّر بهم من لا ينطق عن الهوى، ينفون عن الدين، والسياسة، والأدب ما علق بها من تحريف ضال، أو تأويل جاهل، أو انتحال مبطل. وقد لا يجدون المؤيد، ولا غرو. فالمبلغ أخبر أن النَّبِيَّ يأتي، ومعه الرجل، والنَّبِيَّ يأتي، ومعه الرجلان، والنَّبِيَّ يأتي، وليس معه أحد. وبنو إسرائيل تلبسوا خطيئة قتل الأنبياء. وكم من مصلح بح صوته، وضاقت به الحيل، ولم يستبن قومُه الرَّشَد، ولا في ضحى الغد. تداعت هذه الخواطر على ذاكرتي، وأنا بين طلابي، أنفي عن أفكارهم ما علق بها من مستخلصات نقدية، وفكرية، توارثوها دونما تساؤل، أو تردد. حتى لقد ينتفض أحدهم، كعصفور بلله القطر، لأنه سمع، ولأول مرة من يقدح بِصِدْق موثق، أو يأتي مسلمة من قواعدها. ولو أنه منح نفسه الثقة، وحق التساول، والنقد، والاعتراض، لما ارتهنه الزيف، وعطل حواسه التلبيس، وخدعه التدليس. حدث لي هذا عندما فَضَّلْتُ [العقاد] على [الرافعي] في البعدين: الفكري، والديني، وما استطعت الخلوص ببدني من تكسر نصال الاعتراضات على النصال، إلا بتمكينهم من تصفح الكتب التي تعد وثائق إثبات غائبة، أو مغيبة. وحدث لي مثل ذلك عندما قللت من قيمة [مدرسة الديوان] في بعدها الإبداعي بإزاء [مدرسة الإحياء] وبخاصة [شوقي] و[حافظ]. ولقد كنت ممن اقترف خطيئة تضخيم حجم [الديوانيين] في بعدهم الإبداعي ولما ظفرت بالأعمال الشعرية لـ[عبدالرحمن شكري] و[إبراهيم عبدالقادر المازني] و[عباس محمود العقاد] وحَمَلْتُ طلابي على إنجاز موازنات شعرية بينهم وبين [شوقي] و[حافظ] و[صبري] و[محمود غنيم] وآخرين، تبين لهم زيف الجاهزيات، والفرق بين القراءة عن الرموز، وقراءة ما أنجزوه في مختلف الحقول المعرفية، والإبداعية. وحدث لي أشد من ذلك حين قلَّلت من شاعرية [مَحْمود عارف] الذي أخرج للمشاهد سبعة دواوين، وليس ببعيد عنه [عبدالسلام هاشم حافظ] رحمهما الله. إنهما شاعران مكثران، ولكنهما لا يملكان أدنى حد من قانون الجاذبية. وحين فرغت من استعراض [قاموس الأدب والأدباء في المملكة العربية السعودية] بمجلداته الثلاثة، الذي أعدته مشكورة [دارة الملك عبدالعزيز] أحسست أن بعض معدي مواده لما يزالوا مرتهنين للجاهزيات. والموسوعة إنجاز متميز، في الشمول، والتقصي، واستكمال متطلبات الموسوعات، والمعاجم. وموسوعة الأدباء تأتي حلقة مضيئة في سلسلة منجزات الدارة. ولن تعيبها بعض المبالغات في التراجم. الشيء الذي طال انتظاره، ولما يأت بعد إعادة تقويم المشهد الأدبي، وإعادة قراءته بعيون ثاقبة، ورؤية شجاعة، وافتراس مباشر. قد نعذر النقد الصحفي، وأفراد الأدباء المتطوعين، والقراء الذواقين. أما النقد الأكاديمي، ورموزه الذين كان لهم الفضل في تجسير الفجوات مع الأدب العربي، ونقده، وحضور المحافل الأدبية، والإسهام في التأصيل، والتأسيس، واستيعاب المذاهب، والمدارس ممن نعرفهم بسيماهم، فإننا نُحَمِّلهم المسؤولية، ونؤاخذهم على التسويف، والتقصير، والإرجاء. فالأدب السعودي، وأدباؤه، ونقاده، يعيشون حضوراً نِدِّياً متكافئا، ولم يعد دورهم استهلاكياً. وأنديتهم، وصوالينهم، وداراتهم، ومكتباتهم خير شاهد على تميز دورهم في مشاهد الأدب، والنقد العربي. وتباطؤهم في مبادرة التصحيح من نقص القادرين على التمام. فلنتلقَّ الراية، باليمين، ولنأخذ المهمة بحقها. - لقد ضاع الشعر بالنثرية، والغموض، والركاكة، ونظم الاقتدار دون الموهبة. - وضاعت الرواية بالترهل، والهراء، والاعتراف، والتفحش، والسكونية، والقدرة على السرد دون الإبداع. - وضاع النقد بالمجاملة، والاستغراب، وجهل التراث. وعدم السيطرة على المترجمات. وأصبح الأديب المؤصل في المشاهد الأدبية غريبَ الوجهِ، واليدِ، واللسانِ.