تبدو الثقافة العراقية اليوم أكثر تشظياً وارتباكاً من السابق، فقد كانت ملامحها واضحة في الثمانينات والتسعينات بكل سلبياتها وإيجابياتها، حيث يتقاسمها أهل الداخل والخارج، ولكنها اليوم غدت تخضع إلى فوضى مدوخة. ولا نقصد هنا بالثقافة ما ينتجه المَشْغَل الأدبي والفني وحسب، بل مجموع القيم والأفكار والتصورات التي تمثل مشتركات شعب من الشعوب. ولا يمكننا القول إن الثقافة العراقية تعيش عصر انحطاطها كما يُكتب في غير مكان، بل نعتقد أن الاختلاف في المستويات ووجهات النظر ونوع القيم الجمالية والروحية وأنماط العيش، يمنح الثقافة، أية ثقافة، ديناميكية تساعدها على الخروج من المحافظة والنمطية طال الزمن أم قصر. بيد أن المكان الثقافي بما يضمره من فكرة الاستقرار، هو ما تفتقده الثقافة العراقية اليوم، والمكان الثقافي لا يعني فقط هذا المستقر الذي يلتقي فيه ناس الثقافة عند جغرافيا محددة، بل هو أبعد من هذا، لعله نوع من الانتظام المجازي في التقاليد القيمية سواء في الفن او الأدب أو في تذوق الجمال والعمران وأسلوب الحياة. وفي الظن أن الانتقالات التي تكررت في الثقافة العراقية، من العقلانية الحداثية في الخمسينات، إلى فكرة تهميشها أو العودة إليها، التي بدأت في الستينات واستمرت إلى التسعينات، كانت تقف تحت مظلة صراع الأجيال، وفي فضاء ثقافي واحد سواء داخل العراق أوخارجه. ورغم العواصف السياسية المدوخّة، كان هناك ما يشبه الأقطاب الثقافية المستقرة التي يتحرك من خلالها الفرد رافضاً او مستسلماً لسطوتها. في حين غدت الساحة العراقية في السنوات التي أعقبت الاحتلال وما سمي بالعراق الجديد، غير خاضعة لفكرة المجايلة، والمجايلة سبب من أسباب الجدل المثمر في كل ثقافة، حيث تخلق الابتكار وتتولى تدوير وتخصيب الرؤى ودفعها إلى أفق مغاير لما هو سائد. الجيل الجديد من المثقفين الشباب، يبدون اليوم وكأنهم يتحركون في ملعب فارغ دون خلفية تسندهم، لا جمهور ولا معلمين يرعون مواهبهم. انهم براغماتيون قدر ما يتعلق الأمر بمساحاتهم في الانتشار المحدود داخل مربعاتهم الصغيرة، فليس هناك من رقيب يخشون عينه الثاقبة كما كانت الأجيال السابقة. نحن هنا لا نقيم كبير وزن لفكرة الرقيب الأدبي والقيمي، وما نقصده هو فكرة الحوافز والمنافسة والقدرة على النقض ونقض النقيض. فتاريخ الأفكار والفلسفات والقيم والجماليات يقوم على هذه القاعدة. فما من ثقافة جديدة وطازجة، إلا وتشتغل على تنظيف هواء الغرف التي حل فيها الجيل الذي سبقها، مستفيدة من كل ما أحرز من مكاسب، لتكون أكثر قوة وطلاقة وحرية. انها تشتغل وعينها على ما سبقها من منجز. في حين نجد الثقافة العراقية الجديدة وكأنها تدور على نفسها وحيدة في الحلبة، وهي لهذا السبب إما محافظة تخاف التجديد و تدافع عن القديم بضراوة، وإما مندفعة الى اقصى الاختراقات المدوخة. وقد نجد النقيضين عند المجموعة الصغيرة أو الفرد المؤثر في ميدانه. قبل فترة لا اتذكرها، قرأت للشاعر الشاب علي السومري كلمة يقول فيها انه يحمل دينا لأبيه الثقافي مثلما يحمله رفاقه، والأب الثقافي كما يذكره هو الشاعر والناقد مالك المطلبي، لأنه حسب ما يقول السومري "من أهلنا". ولم أكن أحزر خطورة المطلبي الصديق العزيز، إلا بعد أن قرأت تلك الكلمة! مثلما يشعر الكثير من الروائيين والشعراء، بامتنان لمعلم آخر هو محمد خضير أو لأم رؤوم مثل لطفية الدليمي. ولعل هذه العلاقة لا تحمل إشكالية ثقافية على مستوى الأدب، انها تشبه الولاء للمرجعيات في الثقافة الدينية الشعبية. اي انها لا تحتمل جدلية المجايلة، فالجيل السابق يبقى غير قادر على التأثير بالمعنى الصراعي، فهو مؤمثل أو مبعد من المشهد الثقافي، سواء كان في الداخل أو الخارج. يخطر ببالي ثقافة التداول الاتصالي في عالم الأفكار والأدب والحياة العامة عبر الانترنيت، وهي تعمد إلى خلق حجرات متشظية داخل كل الثقافات، اي انها تتجه على نحو عفوي، إلى أفق مابعد حداثي، حتى لو كان وعيها قاصرا عن الوصول إلى مغزى الحداثة نفسها. ولكن الذي يلح على فكري وأنا أكتب هذه السطور، ولعلني أبالغ هنا، هو أن الثقافة العراقية الآن لا تستثمر في أرض خصبة أو متحركة، فقد باغتها الحدث السياسي وتركها صريعة مبادراته. لذا يبدو الأدباء، شأنهم شأن كل المثقفين في العراق، أسرى هذه الاحداث الضخمة التي ينوؤون تحت وطأتها. تحولوا إلى كتاب أعمدة، وهي مهنة مرموقة تدرّب الكاتب على المران والمطاولة، ولكنها تستهلك العمق الجمالي للبحث والنظر المتأمل. الكتب التي صدرت حول اشكاليات الثقافة العراقية مبادرات طيبة، ولكن معظمها يغلب عليه الحس الصحافي والعواطف السياسية الملتهبة وتحمل بالمعنى السلبي ما نسميه مجازا مواصفات " ثقافة الانترنيت"، لأنها تفيض عن حاجتها باستسهال او تحيزات صاحبها. وهذا الاستسهال يتولد من فكرة الوحدة والاستيحاش، لان الكاتب يرى نفسه في أرض بكر وعرة ومخيفة وعليه ان يبتكر فؤوسه كي يطوع الوحوش المفترضة فيها. وبسبب تلك الاندفاعات التي لا تجد ميادين للمقارنة أو الموازنة الرصينة بين الأجيال، نرى ثقافة التملق سائدة في النقد الأدبي، وتقابلها ثقافة المصادرة والعنف اللفظي. مثلما تسود ثقافة الرثاثة والشعر الشعبي على أعلى المستويات. الأجيال القديمة تعيش في شبه عزلة داخل العراق وخارجه. ولا ندري تحديدا ما الذي جرى في انتخابات اتحاد الأدباء الذي يسيطر عليه جيل من الشيوعيين القدامى، وهم أصدقاء أجلاء، ولكنهم أقوياء على نحو مخيف، كي يفوزوا بعزلتهم في مبنى لم ينتخب على مدى عشر سنوات أديبا شابا لرئاسته. انها نوع من المحافظة المستترة لجيل ماطل فكرة التغيير بضراوة. الأجيال الجديدة أسيرة فقدانها المستقر الذي تنمو وتورق في ظلاله مشاريعهم المؤجلة. فهي ما بين ثقافة تعود فيها إلى القرون الوسطى، وصحو ة تطيح بكل توازن تحتاجه أكثر الحركات حداثة واندفاعا. هل هي الحرية المدوخة ام انقلاب البوصلة بين ثقافة شمولية في الماضي وثقافة عامة تشبهها في الحاضر. مفهوم الجيل على ما طرأ عليه من تغيرات، ينطوي دائما على مواصفات تشمل التجارب والخبرات المشتركة، ويدخل حوار الأجيال في صلب عملية تشكل تلك الخبرات باعتبارها صيرورة تاريخية. فكرة الانقطاع في الثقافة العراقية انتجت معارف وخبرات فقيرة، وزادتها الحروب والدكتاتورية عزلة عن العالم، فبدت البيئة العامة وحتى بيئة المثقفين الجدد، وكأنها غير قادرة على التعامل مع الآخر"الدخيل" سواء القادم من الخارج أو الذي لا يحمل قيم الجماعة. ومن هنا نشأت حالة التصادم بين الأجيال الجديدة والأجيال القديمة تلك التي تشكلت معارفها على مقولة شبه ناقصة وهي "كونية الثقافة". مقابل ما احرزته ثقافة الانتماءات القديمة وتبدأ من الطائفة والعشيرة ولا تنتهي بالقرية الصغيرة. لعلها عولمة التشظي التي تحتاجها الحروب الصغيرة والكبيرة.