في الدولة الحديثة الراغبة في التعايش مع منظومة قيم القرن الحادي العشرين، هناك متطلب استراتيجي لابد من فهمه يتمثل في إحلال نظريات قيمية جديدة في المجتمع من أجل ضمان التفاف المجتمع حولها بهدف إنتاج (المواطن)، ليس المواطن الباحث عن وظيفة ولكنه مواطن بمواصفات جديدة، ولكن يبقى السؤال المهم حول إنتاج النظريات والاستراتيجيات من أجل نقل المجتمعات عبرها ومن يجب عليه أن يقوم بذلك..؟ لا يمكن بل يستحيل أن يكون هناك منتج مجتمعي دون نظريات تقوده بل إن كل الحضارات لا تصل لتصبح كذلك قبل أن يكون لديها هدف استراتيجي يقودها. في المجتمعات المتخلفة فقط تصنع المسافة المعقدة بين التنظير والتطبيق وهناك تخلق مسافة العزلة بين النظريات والأفكار ويصبح الحديث المجتمعي قائماً على تقليل الثقة في التنظير والتخطيط، ومع مرور الزمن يتم سجن النظريات والأفكار من خلال منظومة تطبيقات مهترئة لم يحدث لها صيانة فكرية منذ قرون وفي بعض الأحيان منذ آلاف السنين. أصبح واجباً فتح الباب على مصراعيه للفكر والبحث والنظريات بكل مجالاتها، لتقول كلماتها العلمية والتي يجب أن نقبلها مهما كانت قسوتها على التاريخ والتراث والفكر فكل شيء قابل للتطوير مادام الإنسان قابلاً للحياة والعيش لقد أصبح واقعاً مؤلماً أن كل الدول النامية والمتخلفة تعاني من إهمال لأفكارها البحثية والفكرية وكأن العلماء والمفكرين وقادة الرأي مجرد مكملات تنظيرية، والحقيقة أنه نتيجة للزمن الطويل من عزلة الفكر عن جسر التخطيط ومرمي الواقع، أصبح الفكر الاستراتيجي يعاني من الترهل بل إنه أصبح يعاني من الكثير من الأمراض الإدارية والرقابية التي اعتبرته مؤشراً غير مرغوب فيه في المجتمعات. السؤال يقول هل استبدلنا كمجتمعات فكرة وأد البنات التي تحرمها الأديان، إلى فكرة وأد الأفكار ونظريات المفكرين التي لم يحرمها الدين علينا!!!، فقط قد تبدو الإجابة سهلة ولكنها معقدة إذا أردنا بحث الأسباب الحقيقة خلف ذلك، إن هذا القرن الحادي والعشرين الذي يمثله مشهد (اللحظة السريعة) في التغير والتقدم والتطور سيساهم في كشف الكثير من الأمراض السياسية التي سوف تعاني منها الدول غير القادرة على فهم مدلول ظاهرة (اللحظة السريعة) الخاصة بالقرن الحالي، فالمؤشرات تقول إن بعض المجتمعات سوف تتعرض للتحلل بينما هي تنطلق في لحظة سريعة باتجاه العالم الذي سوف يتجاوز المستقبل. في كل دول العالم المستعد لهذا القرن يبحث العلماء فيها اليوم عن مصطلح أكثر تعبيراً من كلمة (المستقبل) لكي يستخدموها لوصف الحالة الزمنية، فهذا القرن كما تشير معطياته يوحي بأن للسرعة مفهوماً جديداً أكبر من كلمة مستقبل، السؤال الذي يقلقني شخصياً هل تفهم الكثير من المجتمعات أنها عرضة للتحلل الفكري والمجتمعي عطفاً على معطيات تشير إلى التحول السريع الذي ينتظر العالم ويستعد له العقل البشري؟ ألم يفسر أحد في هذه الدول كم غيّر من أجهزته اللوحية وأجهزة الهاتف لديه فقط خلال خمس سنوات مضت ألم يسأل أحد نفسه؟ هذا هو عصر (اللحظة السريعة) هذا ليس تطوراً في التقنية كما يعتقد الكثير منا، فما يجري هو استيعاب متسارع يسابق الزمن لاكتشاف هائل من الكنوز العلمية التي وقف عليها الإنسان المتحضر في فضاء اللحظة السريعة للقرن الحادي والعشرين، فالمجتمعات اليوم وعندما تستطيع أن تمارس رؤية المستقبل أمامها وتستطيع أن تشاهد موقعها خلال خمسين أو ستين عاماً قادمة، فإن مصطلح المستقبل يجب أن ينتهي كما انتهى الكثير من المفاهيم العلمية والنظرية في العالم لانتفاء أهميتها وضرورة إحلال جديد بدلاً منها. لن تكون الشعوب بكل تفاصيلها تحت سيطرة الدول وسيكون ذلك في مراحل متقدمة من هذا القرن فالمؤشرات لذلك ظهرت، فعصر (اللحظة السريعة) سيجعل لدى الشعوب إمكانية أن تكون مواطناً تقنياً في دولة أخرى، ومواطناً فسيولوجياً في دولته. إن على الدول أن تتخلى عن حب الذات حتى لا تسمح لنفسها بالخروج من منظومة العالم، سوف تعاني الدول ولن تستطيع الإجابة على سؤال مهم حول ما هو منتج المواطن الذي تريده هل تنتج مواطناً صالحاً، أم مواطناً عاملاً أم مواطناً. إلخ،،،، من منظومة مقترحة لإنتاج المواطنين. عملية إنتاج المواطنين تحت أي مضمون وفق منظومة الحكم والطاعة في سياق البحث عن السلام المجتمعي، ستتغير قواعدها وسوف تصبح أكثر تعقيداً والدول اليوم وأخص الدول العربية تشهد هذا الارتباك في منظومة إنتاج المواطن، وهنا سوف تتدخل قواعد التاريخ لتتحكم في المضمون وسوف تلجأ الشعوب إلى الأيدولوجيات كحلول مفتعلة وهي تفعل فمنتجات الإسلام السياسي تعبر عن ذلك، ولكن هذه الأيديولوجيات سوف لن تتمكن من التعايش مع الواقع وسيكون من الطبيعي أن تلجأ إلى العنف وهذا ما يفسر كل ما نراه من حولنا. تأخر العالم الثالث والمجتمعات الأكثر تخلفاً في الدخول إلى مرحلة التهيئة الزمنية التي ساهمت في ظهور النظريات الفكرية والتحولات السياسية والتطورات المجتمعية التي عاشتها دول العالم المتحضرة اليوم خلال القرون الثلاثة الماضية، هو ما أنتج هذا الانتكاس الذي نشهده مع صعود الأيديولوجيات والتطرف الذي عبر عن نفسه بوحشية هائلة وصلت إلى أعمال لم تصل إليها البشرية في أكثر عصورها تخلفاً. إن مؤشرات التطرف الأيديولوجي ليست مفتعلة وفق نظرية المؤامرة كي يصاب بها العالم العربي لوحده فقط، إنها النتيجة الحتمية التي يطرحها التاريخ والتي أنتجت منهجية التطرف التي يجب أن يخشاها العالم كله فالإنسان بطبيعته ميال للعنف والشر في كثير من المواقف منذ أن قتل أول إنسان على هذه الأرض على يد أخيه. إن ما يخشاه العالم ليس أن يقضي الإسلام المتطرف على بعضه بالقتل والعنف، ولكن خشيته تتمثل في استدراج الإنسان المتحضر تحت إغراء الفوضى الأيدولوجية وتحت حماية عقائدية، معبراً عن ثورته على أنظمة الإنسانية وقوانينها التي استهلكت قروناً من الكر والفر الفكري لتحدث، والخشية أن يشرع العنف الفكري تحت مبدأ أن ما يحدث هو عودة تاريخية منتظرة للأيدلوجيا ساهمت نبوءات تاريخية بتوقعها. ما الذي يمكن أن يفعله العالم من أجل تلك المجتمعات غير القادرة على المساهمة في اللحظة السريعة، فالعالم المتحضر يخشى أن تغزوه تلك الشعوب الهاربة من تحلل مجتمعاتها فكرياً وثقافياً بفعل الأيديولوجيات المغلقة التي تشبه المعنى الحقيقي (لمدينة بابل) التي تعني الغموض، ما الذي يمكن فعله من جانب مجتمعاتنا لحماية أنفسها في عصر (اللحظة السريعة)؟ لقد أصبح واجباً فتح الباب على مصراعيه للفكر والبحث والنظريات بكل مجالاتها، لتقول كلماتها العلمية والتي يجب أن نقبلها مهما كانت قسوتها على التاريخ والتراث والفكر فكل شيء قابل للتطوير مادام الإنسان قابلاً للحياة والعيش.