مما تقرر عند كثير من الناس أن خلفية الإنسان تحكمه في فهم ما يقرؤه، واستيعاب ما يطّلع عليه، وهذه قاعدة في الفهم مشهورة معروفة؛ فلا أملك أنا، ولا تملك أنت، أن تتخلص من تجاربك السالفة في فهم ما تُشاهده، وقراءة ما تود الاطلاع عليه، وهذا الاتجاه فتح الباب أمام المؤمنين بالفكرة أن يبحثوا فيما وراء أفهام الناس، ويطلعوا على مكوّنات ذهن الإنسان، وينظروا بعد ذلك في العلاقة بين ما يحمله في ذهنه وبين تصوراته التي يُكوّنها عما في الحياة؛ ففهم الإنسان وطريقة تحليله للنصوص والأحداث ليست بريئة، بل محكومة بأشياء لم يكن للإنسان دور في تكوينها، ولا في بنائها، وهذا الارتباط بين قبليات الإنسان وبين تحصيله الفكري صورة من أوضح صور ضعفه البشري، وهو أخطر ضعف يُواجهه الإنسان؛ لأن له علاقة بأثمن ما يملك، وهو العقل، ولست أستبعد أن يكون حديث القرآن عن ضعف الإنسان؛ كما في قوله تعالى:(وخلق الإنسان ضعيفاً)، مُتجها إلى هذا المعنى، وهو من أوائل المعاني الداخلة فيه؛ لأن العقل عمدة كل شيء ومبدؤه؛ فمتى صلح العقل واستقام صلحت سائر شؤون الإنسان. لقد استطاع الإنسان الحديث أن يفصل بين النصوص الدينية وأفهام الإنسان عنها، ورأى أن الإنسان في شؤون الحياة كلها يُمثل خلفياته أكثر من تمثيله الوقائع التي تقع تحت بصره، وقاده هذا إلى البحث فيما وراء الفهم؛ فخرج بما يُعرف بعلم الهرمنيوطيقا، وهو علم يقوم، كما يقول محمد مجتهد شبستري، على :"ابتناء تفسير النصوص وفهمها على قبليات المفسر، وميوله وتوقعاته" فتحوّل اشتغال الباحثين من مقارنة فهم الناس بالنص، قُرْبه وبُعده عنه، إلى مُقارنة فهم الإنسان بخلفياته، وما يحمله في ذهنه، وهي فكرة ناضجة، وحكمة بالغة، ويُقويها عندي أن القرآن معجز، ولا معنى للإعجاز في رأيي؛ إن لم يكن معظمه متعلقاً بقدرة إدراك الإنسان لمعانيه، وأخذه عنه؛ أقصد لا معنى للإعجاز إن لم يكن منصرفاً إلى إعجاز أثمن شيء في الإنسان، وهو العقل. نقرأ النصوص، ونُحلل المواقف، حسب التكوين العقلي لكل منا! وإلى هذا يرجع الاختلاف بين الناس في فهم النصوص، دينية كانت أم غير دينية، وإليه يرجع الاختلاف بيننا في تحليل الأحداث الشخصية والوطنية والإقليمية والدولية!. الإيمان بأثر التكوين المسبق على الإنسان جعل المفكرين في هذا العصر يُركزون عليه، ويطيلون في الحديث عنه؛ لأنهم يريدون أن يلفتوا نظرنا إلى أن جزءاً كبيراً من الخلل في الفهم، والضعف فيه، ومن الوهن في صورته التي نخرج بها، مرده إلى تكويننا المعرفي، وبنائنا الذهني؛ فعلى حسب تكوينك يكون فهمك، ووفق بنائك الذهني يكون ما تخرج به مما يُكتب لك الاطلاع عليه، وتتاح لك فرصة النظر فيه، والثمرة من هذا أنّ عليّ وعليك أن نلوم أنفسنا حين نخطئ في الفهم، ونعثر في التصور! وهكذا فنتيجة هذه الفكرة هي أن نُلاحظ تكويناتنا الذهنية، ونراقب أثرها على عقولنا حين نستنتج ونستنبط من الوقائع؛ نصوصاً كانت أم أحداثاً!. والإيمان بهذه الفكرة هو الذي دعا المفكرين إلى تأسيس فكرة الانفتاح على الآخرين، والدعوة إليها، والإصرار على القول بها؛ لأن الانفتاح يُغيّر من التشكيلة الذهنية، ويُعيد بناء الذهن، ويسمح بهذا أن يرى الإنسان أموراً لم يكن يراها، ويُبصر أشياء كانت غائبة عنه؛ فتخف غبطته بما عنده، وتقل حِدّته في الحديث عن رأيه. ومن أظهر حجج أثر التكوين، وأنه أحد أسباب ضعف الإنسان الرئيسية، أننا نرى الاختلاف البيّن بين تصوراتنا هذه الأيام وتصورات من كانوا قبلنا بخمسة عقود تقريباً؛ فقد كان إنسان تلك الفترة غير قادر ذهنه على استيعاب المحدثات العلمية الحديثة؛ فكان يرى في المذياع شيطاناً يجب إزهاق روحه، وإتلاف أنفاسه! وهو اليوم يعدّه جزءاً من عدته التي لا يستغني عنه، ولا يعيش دونها. ومثل هذا كان جرى في مسألة دوران الأرض، فكان بعضهم يُكفِّر القائل به، ويرى الذهاب إليه مُخرجاً من الملة، ولا أنسى في هذا السياق أنني مرة خرجت من جامع العز بن عبدالسلام في حي السلام، فوجدت على رفّ عند مدخله كتاب "هداية الحيران في مسألة الدوران" لعبدالكريم الحميد، فتصفحته، ووجدته يقطع أن الأدلة الشرعية واضحة وضوح الشمس في الدلالة على عدم دورانها، وأن القول بالدوران ليس سوى ضلال زجّ به الغربيون في عقولنا! وأورثه لنا!. هذه قضية اتفقت عليها البشرية، وأصبحت مسلمة علمية في مراحل التعليم في دول العالم كافة، وما زال هناك من يسعى لإبطالها، وتضليل القائل بها، ولا أظن أمثال هؤلاء ينقرضون؛ لأن هناك في كل عصر ومصر مَنْ يصعب عليه أن يُغيّر خلفيته الذهنية، ويُعيد ترتيبها من جديد، وهكذا فالناس موعودون دوماً بمن يُناهض البدهيات عندهم، ويسعى لإبطالها أمامهم؛ لكن ركب الحياة _ والحمد لله _ لا يلتفت إلى أمثالهم، ولا يعبأ بأقوالهم!. وفي هذا السياق، وفي سبيل تأكيد أثر الخلفيات على الإنسان، أودّ أن أطرح بين أيديكم تأثير الإيمان بفضيلة الجنس على المفسر للقرآن الكريم، وأُوَضّح بهذا أنّ تقديس المذكر، والتقليل من شأن الأنثى، كان له دور في تشكيل المعنى القرآني، وهذا يكشف أن الثقافة العربية في تَمْداح المذكر؛ لأنه مذكر، وإهانة الأنثى؛ لأنها مؤنث، كانت حاضرة مؤثرة على طريقة استقبال النص القرآني عند بعض المفسرين، وذاك أمر طبعي، وليس فيه استهزاء بهذا المفسر أو ذاك؛ بل ترك مثل هذا فيه تقديس للمفسر وعصمنة لعقله، وإخراج له من محيط الإنسان الذي يجعله يتأثر بما ينشأ عليه، ويتقلب في أجوائه، والعيب علينا في عدم إجراء هذه الفكرة على الأسلاف قبلنا أشد علينا من عيب جريانها عليهم!. يقول ابن كثير:" المرأة ناقصة، يكمل نقصها بلبس الحلي منذ تكون طفلة، وإذا خاصمت فلا عبارة لها، بل هي عاجزة عيية، أَوَمن يكون هكذا يُنسب إلى جناب الله العظيم؟! فالأنثى ناقصة الظاهرة والباطن في الصورة والمعنى..." (ج 4/ 126). ويقول أيضا:" وكذلك جعلوا له من قسمي البنات والبنين أخسهما وأردأهما، وهو البنات!" ( 4/ 126). ويقول عند قوله تعالى:(وبنات عمك وبنات عماتك وبنات خالك وبنات خالاتك) من سورة الأحزاب مفسراً إفراد المذكر (العم) وجمع المؤنث (العمات) وغيرهما:" فوحد لفظ الذكر لشرفه، وجمع الآناث لنقصهن"!!. ومثل ابن كثير الشنقيطي في قوله:" فأشار إلى أن الرجل أفضل من المرأة، وذلك لأن الذكورة شرف وكمال، والأنوثة نقص خلقي طبيعي، والخلق كأنه مجمع على ذلك؛ لأن الأنثى يجعل لها جميع الناس أنواع الزينة والحلي، وذلك إنما هو لجبر النقص الخلقي الطبيعي الذي هو الأنوثة؛ بخلاف الذكر فكمال ذكورته يكفيه عن الحلي ونحوه!" (1 / 103). ويقول أيضاً:" ومع ذلك زعموا له أخس الولدين، وهو الأنثى، فالإناث التي جعلوها لأنفسهم ويأنفون منها" ( 2/ 387). حين نقرأ القرآن لا بد أن نستحضر أنه يخاطب العرب وفق رؤيتهم للأمور، وتصورهم لها، ويُطالبهم بناء على ما استقر لديهم، وآمنوا به، أن ينظروا إلى الله بمثل تلك النظرة؛ فذاك هو العدل والإنصاف؛ إذ من غير المعقول أن يطلب العربي الذكر، ويفعل في سبيل نيله ما يستطيعه؛ لما يرى في ذكورته من الكمال والجلال، ولما يرى في الأنوثة من الضعف والنقص، ثم يخص الله تعالى بالإناث، ويجعل عباده من الملائكة إناثاً؛ تلك هي القضية في القرآن؛ فما دمتَ أيها العربي ترى هذه المعاني الجليلة في الذكر كذكر، وتحتقر الأنثى؛ لأنها أنثى فحسب؛ فمن الظلم أن تختار لربك ما تكره، وتعزو له ما تأنف منه! وليس في هذا دليل على ما فهمه المفسران؛ لأن المبدأ الراسخ في التفاضل بين الناس في إحسان العمل وإجادته. في حديث ابن كثير، والشنقيطي من بعده، إصرار على المضي على طريق العرب في التفكير، وهو أن الأنوثة نقص بذاتها، والذكورة كمال بذاتها، وهذا خلاف صريح الخطاب الديني (إن أكرمكم عند الله أتقاكم) فلا فضل لعربي بعروبته على غيره، ولا فضل لذكر بذكورته على أنثى!. الذهاب إلى رأي ابن كثير والشنقيطي مؤداه أن الدين جاء بالتفضيل بين خلق الله في أمر لا يملكون تغييره، ولا يستطيعون تفاديه (يهب من يشاء إناثاً ويهب من يشاء الذكور أو يُزوجهم ذكراناً وإناثاً ويجعل من يشاء عقيما). والسير على هذا النهج، ومحاولة دمج ثقافة العرب بالنص الديني نفسه، أو دمج ثقافة المفسر به؛ دون الالتفات إلى قاعدة "لكل مقام مقال" تسويغ لتوزيع الناس إلى طبقات باسم الله، وتفضيل بعضهم على بعض بأسباب لم يكن لهم دور فيها؛ فيكون مثلاً الذكر ناقص الخلقة ناقصاً في كماله وجلاله وفضله عند الله تعالى على مقدار ما فيه من نقص؛ فالأعمى الذكر أنقص من المبصر، والأكمه الذكر أدنأ من السامع، والمقعد الذكر أنقص من غير المقعد! وهكذا دواليك في الأفراد والأجناس والشعوب، لقد غاب عن هذين المفسرين أن الدين برّأ الإنسان من حمل جريرة آبائه عليه(ولا ترز وازرة وزر أخرى) فكيف يُحمّله شيئاً أراده الله تعالى له، وخلقه على صفته؟! أيُبرّأ الإنسان من حمل أوزار آبائه عليه، ثم يُحمّل ضريبة خلقه على صورة الأنثى، وتلك كانت إرادة الله تعالى له، فتجد مثل هذين المفسرين يصفان الأنثى بالخسة والدناءة؛ لأنها أنثى فحسب! إن هذه النصوص، المنقولة عن المفسرين، تدفع بنا إلى قراءة التراث من خلال هذه النافذة؛ فهو تراث كانت خلفيات المفسرين والفقهاء والمحدثين والأصوليين لها دور كبير في تكوينه، وبناء باحاته.