كل الوطن- وكالات:الشعب الإسرائيلي على موعد مع تيه جديد، كذلك الذي عاشه أيام الرومان، طبقًا لما كتبه أحد الرؤساء السابقين لجهاز الاستخبارات الإسرائيلي الموساد لصحيفة هآرتز الإسرائيلية، إذ يدعو إسرائيل إلى قبول مبادرة الجامعة العربية 2002، والبحث عن السلام الشامل من جديد مع السعودية ومصر. منذ ظهور الصهيونية في نهاية القرن التاسع عشر ويهود أرض إسرائيل يزدادون قوة من حيث الأرض والديمغرافيا، رُغم الصراع الدائر مع الفلسطينيين، وقد نجحوا في ذلك لأنهم تعاملوا بحكمة وتدبير استراتيجي بدلًا من التعامل مع أعدائهم بحماقة. اليوم، ولأول مرة، أصبحت لدي آرائي الخاصة المختلفة عن تلك الرواية، إذ ينتابني القلق حيال مستقبل المشروع الصهيوني، لا سيما الأخطار المتزايدة ضد وجودنا من ناحية، وما تعانيه الحكومة من تخبّط وشلل استراتيجي وسياسي من ناحية أخرى. تعتمد دولة إسرائيل على الولايات المتحدة بشكل كبير، بيد أن العلاقات بينهما وصلت إلى الحضيض في المرحلة الراهنة، كما تعبت أوربا، السوق الأكبر بالنسبة لنا، من عنادنا، وهي تتجه فعليًا لتطبيق العقوبات علينا. ماذا عن الصين؟ نحن بالنسبة لها مجرد مشروع تكنولوجي ناجح، ونبيع لهم ما لدينا مقابل الربح، أما روسيا فهي تتحول تدريجيًا لمناصبتنا العداء ودعم بعض أعدائنا بوضوح. يشهد العالم اليوم موجة من معاداة السامية وكراهية إسرائيل بشكل غير مسبوق منذ الحرب العالمية الثانية، وتعد سياساتنا في الدبلوماسية والعلاقات العامة فاشلة تمامًا حيال ذلك، في حين يبدو أن الفلسطينيين يحققون إنجازات على هذا الصعيد. فنحن نخسر تدريجيًا الدعم لصالح إسرائيل في الأوساط الأكاديمية الغربية، وهو أمر خطير لأن الجامعات، خاصة في الولايات المتحدة، تعد معقل تخريج القيادات السياسية والاقتصادية. تتزايد كذلك أعداد الطلاب اليهود النافرين من إسرائيل، بل إن هناك قلة من اليهود الأعضاء بالفعل في حملة المقاطعة والعقوبات وسحب الاستثمارات (BDS) الموجهة ضد إسرائيل، والتي وجدت رواجًا شديدًا. ليس أدل على الانحدار الذي تشهده إسرائيل، وتراجع التكاتف بين اليهود فيها، من السجالات في الداخل عن أسعار وجبات البودنغ والتي شغلت الرأي العام لفترة، وكذلك هرولة الكثير من الإسرائيليين للحصول على جوازات سفر أجنبية، مما يشي بتراجع إحساسهم بالأمن. يقلقني جدًا أن أرى للمرة الأولى بين الإسرائيليين هذا الإحساس بالتكبّر والعجرفة، الذي تصاحبه مسحة مشيحانية، حين يجدون أنفسهم في أي صراع ويحوّلوه إلى حرب يهودية مقدسة. فالحرب الجارية الآن، وإن لم تعدو مجرد نزاع قومي سياسي على قطعة أرض صغيرة نسبيًا، لا تتوانى الحركة الصهيونية عن تحويلها إلى حرب شاملة في مواجهة العالم الإسلامي بأسره. أرى أيضًا بشكل ما انفصالًا عن العالم، وعدم فهم للمؤسسات والأساليب الدولية وأهميتها بالنسبة لنا. هذا التوجه اليميني الأعمى والغبي يدفع بالشعب الإسرائيلي إلى موقع معزول بين الأمم لا يليق بها أبدًا. أشعر بالقلق أيضًا لأنني أرى التاريخ يكرر نفسه، إذ يبدو أن إسرائيل تحذو حذو القائد اليهودي شمعون بار كوخبا وحربه على الإمبراطورية الرومانية، والتي أدت إلى تشريد اليهود في أرضهم لقرون. فالتشريد أمر خطير، وهو يخيف الكثير من السياسين العلمانيين والليبراليين الواقعين في وسط ويسار الطيف السياسي، وهم يعون أن التشريد سيدمّر الشعب اليهودي. على الناحية الأخرى تقبع الحركة الصهيونية الدينية، والتي تعتقد أن اليهود هم شعب الله المختار، وتقدس الأرض فوق كل اعتبار، حتى وإن عرّضت الوجود اليهودي نفسه للخطر. أتذكر الآن مناحم بيجين، واحد من الآباء الروحيين لفكرة إسرائيل الكُبرى، وأول رئيس وزراء من اليمين، والذي حارب طيلة حياته لتحقيق فكرته، ولكنه في النهاية تنازل عن سيناء لتحقيق السلام (وهي مساحة تبلغ ثلاثة أضعاف مساحة إسرائيل اليوم). حتى بيجين اليميني كان واعيًا بما يكفي بأن هناك قيمًا أهم من الأرض لحماية الشعب اليهودي، وهو ما لا تعيه الحركة الصهيونية اليوم بتقديسها الأعمى للأرض. بالإضافة إلى ذلك، يبدو أن هناك قطاعات واسعة من الشعب الإسرائيلي نست، أو تناست، الرؤية الأصلية الحقيقية للصهيونية: تأسيس دولة يهودية ديمقراطية للشعب اليهودي على أرض إسرائيل. لم تكن هناك حدود موضحّة في تلك الرؤية، وهو ما يعني أن سياسات إسرائيل الحالية، والتي تنتهجها حكومة يمينية وتشجعها أحزاب متطرفة، لا علاقة لها في الواقع بالصهيونية الأصيلة. ماذا يمكن أن نفعل حيال كل ذلك إذن؟ نحتاج أولًا إلى وقف هذا التدهور والعدول عن المسار الذي نسلكه الآن، وأقترح النظر إلى مبادرة الجامعة العربية لعام 2002، والتي وضعتها جزئيًا السعودية، لتتخذها الحكومة الإسرائيلية قاعدة للحوار مع الدول العربية المعتدلة، بقيادة السعودية ومصر. إعلان كهذا بالطبع يحتاج إلى تمهيد دبلوماسي من جانب الحكومة الإسرائيلية، وهو ما يمكن أن يتم في اعتقادي بثلاث خطوات: 1) تحديد استراتيجية تفاوض مستقبلية، مع موقف واضح لكل النقاط الواردة في مبادرة 2002. 2) فتح قنوات حوار غير علنية مع الولايات المتحدة لمناقشة الفكرة والالتزام بخطوطنا الحمراء وما يمكن أن يساهم به الأمريكيون في هذه العملية. 3) فتح قناة تفاوض أمريكية إسرائيلية سرية مع السعودية للتوصل إلى اتفاقات بخصوص النقاط التي ستتناولها المحادثات، وتنسيق التوقعات بشأن ما يمكن التوصّل إليه. حين تؤتي هذه القنوات السرية أُكُلها، سيتسنى لإسرائيل أن تعلن عن رغبتها في بدء محادثات في إطار مبادرة الجامعة العربية. أثق بشدة بأن الولايات المتحدة والسعودية، كلُ لأسبابه الخاصة، سيتفاعل إيجابيًا مع هذه المبادرة الإسرائيلية، وأن خطوة كهذه ستغيّر من مسار الانحدار الذي انزلقت له إسرائيل. لا يمكننا إنكار قدرة عمليات السلام على فتح الأفاق، ولنتذكر أوسلو على سبيل المثال، بغض النظر عن تحفظاتي الشخصية عليها، إذ فتحت لنا الأبواب وأتاحت خيارات غير مسبوقة للتفاعل في شتى المجالات، لا سيما الاقتصاد. سيكون من السذاجة بالطبع الإيمان بأن تلك العملية ستحقق السلام المرجو منذ عقود، ولكنني على يقين أنها ستولد آليات لتبادل الثقة، وربما اتفاقات أمنية أيضًا في وقت لاحق، بين طرفي الصراع ليستطيعا التعايش معًا. سيعتمد التقدّم في المحادثات بالطبع على هدوء الوضع الأمني، والذي يجب أن يلتزم به الطرفان، وسنجد مع الوقت أن الطرفين يتجهان إلى تنازلات متبادلة تعزز فكرة الجوار المشترك. إذا ما تشكلت تلك الثقة — وهو أمر مرجح تحت قيادة أمريكية سعودية — سيكون ممكنًا بدء الحديث عن حل نهائي للصراع. تتطلب مبادرة كهذه بالطبع قيادة صادقة وشجاعة، وهي قيادة يصعب أن نجدها في هذه اللحظة. ولكن إذا ما أدرك رئيس وزرائنا شدة الأخطار التي تواجهنا، وحماقة المسار الحالي، وفداحة ما يمكن أن تؤدي له السياسات النابعة من اليمين الصهيوني الديني المتطرف — الذي يضرب الصهيونية الأصلية ذاتها — قد يكون ممكنًا أن يتحلّى بالشجاعة والعزم للقيام بتلك الخطوة. كتبت ما كتبت أعلاه لشعوري أنني مديون لوالديّ اللذين أفنيا عمرهما لتحقيق الرؤية الصهيونية، ولأبنائي وأحفادي والشعب الإسرائيلي كافة، الذين خدمتهم لعقود. المصدر:هآرتز