الشهر الماضي، نشر المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية علي خامنئي، بيانه الجديد بشأن «بناء الحضارة الإسلامية الجديدة خلال العقود الأربعة المقبلة». ويستند البيان إلى فرضية أن الحضارة الإسلامية الأصلية، والتي بلغت أوج قوتها وازدهارها في المدينة المنورة ثم لاحقاً تحت ولاية علي بن أبي طالب في الكوفة، قد ولّت أيامها واندثر إرثها على أيدي أعداء الداخل والخارج، ومن ثم ينبغي العمل على إعادة بنائها بالكامل من جديد.وتتماهى فرضية علي خامنئي مع تلك الأطروحة التي تمخضت عنها قريحة الإسلاموي السوداني حسن الترابي في المؤتمر الشعبي العربي والإسلامي الأول في أبريل (نيسان) من عام 1991 في العاصمة السودانية الخرطوم.وربما هو من قبيل المصادفة أن يأتي بيان خامنئي بعد قرابة ثلاثة عقود من «تجمع» الخرطوم الذي اجتذب 500 من أبرز نشطاء ومنظّري التيارات الإسلاموية المختلفة من أنحاء العالم كافة، وكأن الرجال الذين شهدوا «تجمع» الخرطوم قد اتفقوا على مهلة تبلغ 30 عاماً لإعادة تشكيل وجه العالم وفق رؤيتهم الخاصة لما يجب أن يكون عليه الإسلام في العالم. وكان من المفترض بتلك الرؤية المتفائلة للغاية أن تزيح من طريقها حالة التشاؤم العميقة التي لازمت التاريخ الإسلامي وقرون التخلف والرجعية والانحدار، هكذا زعموا.ويحوي برنامج «تجمع الخرطوم» حفنة من الأهداف الطموحة للغاية، منها إزالة دولة إسرائيل، والقضاء على الولايات المتحدة في أعقاب تفكك الاتحاد السوفياتي، وإقامة النظم الإسلامية الحاكمة «الحقة» في الدول الـ57 كافة التي يمثل الإسلام ديانة السواد الأعظم من سكانها راهناً.وتأكيداً للقول، لا يزال أمامنا عامان كاملان قبل حلول الموعد النهائي لمهلة الـ30 عاماً المضروبة بموجب برنامج «تجمع الخرطوم»، وبالتالي لا يمكننا تأكيد أن نسخة «الإسلام» التي راودت حسن الترابي يوماً ما سوف تحلّ مهيمنةً على ربوع البسيطة بحلول عام 2021. ولكن المؤكد لدينا، بحفنة معتبرة من الاستثناءات اللازمة، أن كل الرجال تقريباً الذين حملوا على عاتقهم عبء بناء النظام «الترابي» الجديد قد لقوا نهايات لا تنذر بأي خير.كان «تجمع الخرطوم» في عام 1991، وهو الأول من ثلاثة تجمعات أو مؤتمرات تنتهي جميعها في عام 1995، قد انتخب فيما بينه لجنة قيادية لتنفيذ المشروع.وتولى الترابي بنفسه رئاسة تلك اللجنة ممثلاً عن السودان. ورغم ذلك، وقبل مرور السنوات العشر الأولى، كان قد أُزيح بالترابي من المشهد العام في السودان إلى السجن بعدما ضلع في تعكير الصفو السوداني النسبي من خلال إطلاق الشرطة الدينية ضد الأغلبية المسلمة من سكان البلاد وأسهم في تشجيع القمع والاضطهاد ضد الأقليات من سكان جنوب السودان.والعضو البارز التالي في تلك اللجنة العبقرية كان عباسي مدني مؤسس الجبهة الإسلامية للإنقاذ في الجزائر، واللاعب الرئيسي في المأساة التي عصفت بحياة أكثر من 300 ألف شخص في أقسى عقد من عقود العنف والإرهاب التي شهدتها الجزائر. وبعد ظهوره الوجيز كأحد الزعماء المحتملين للبلاد، اضطر عباسي مدني للفرار إلى منفاه في ألمانيا، حيث انخرط في عالم المال والأعمال لفترة من الزمن قبل أن يستقر به المقام في قطر اعتباراً من عام 2011.ومن أعضاء اللجنة الآخرين كان «رجل المال والأعمال» البارز أسامة بن لادن، الذي خسر جنسيته السعودية ليلقى مأوى يحتويه وزمرته في السودان حيث نال شهرة غير مسبوقة هناك من المشاريع والاستثمارات والرشى. وكان أن طُرد من السودان في أعقاب الانقلاب العسكري الذي تزعّمه الجنرال عمر البشير الذي حاول مغازلة الغرب من خلال تسليمه للمطلوب الأول دولياً وقتذاك إليتش راميريز سانشيز المعروف باسم «جاكال» أو «كارلوس» للسلطات الفرنسية، على الرغم من حقيقة تقول إن الإرهابي الدولي ذا الأصول الفنزويلية قد اعتنق الإسلام.أما حياة بن لادن اللاحقة وحتى تاريخ مقتله في باكستان على أيدي إحدى الوحدات الخاصة من القوات الأميركية فهي موثّقة بصورة لا تقبل اللبس حتى نحتاج إلى إعادة بسط الكلام عنها هنا.وكان عضو اللجنة الإيراني هو حجة الإسلام مهدي كروبي، الذي كان آنذاك متزعماً لفصيل عميق التشدد من المؤسسة الخمينية في طهران. وبلغ كروبي ذروة حياته المهنية باعتلائه رئاسة البرلمان الإسلامي الإيراني مرتين متتاليتين ثم انتهى به الأمر قيد الإقامة الجبرية حتى اليوم.وشهدت اللجنة الإسلاموي الأفغاني قلب الدين حكمتيار عضواً عن أفغانستان. وهو مؤسس وزعيم الحزب الإسلامي، وكان لسنوات الطفل المدلل لوكالة الاستخبارات المركزية الأميركية في بلاد الأفغان، ونجح في الفوز بمنصب رئيس وزراء البلاد، غير أنه لم يتمكن من دخول العاصمة كابل لتولي مهام منصبه. واضطر إلى الفرار إلى إيران حيث أسس شركة للنقل وجنى من خلالها بعض الأموال قبل قفوله راجعاً إلى كابل للاستراحة فيما يشبه الحياة الناعمة الهادئة.ومن أعضاء اللجنة الآخرين الممثلين للوجود المصري في التجمع الإسلاموي كان أيمن محمد ربيع الظواهري، الذي برز اسمه لدور الرجل الثاني الذي التزمه في تنظيم «القاعدة» بعد مؤسسه أسامة بن لادن. وتلاشت أخباره إثر اختبائه في أعقاب سقوط حكم حركة «طالبان» في أفغانستان، ويُعتقد أنه وجد ملاذه الآمن لدى قبائل البشتون الأفغانية في وادي سوات الباكستاني.ومثّل لبنان في ذلك التجمع كبير مسؤولي الأمن في تنظيم «حزب الله» اللبناني عماد مغنية، وهو أحد العناصر الرئيسية الموالية لطهران في المنطقة. ولقي حتفه اغتيالاً في دمشق عام 2005 إما على أيدي القوات الإسرائيلية وإما بأوامر من بشار الأسد شخصياً لأجهزة استخباراته.وكان راشد الغنوشي، مؤسس حزب النهضة التونسي، أحد اثنين من أعضاء اللجنة اللذين تمكنا من تفادي المصير الأسود بعد انتهازه الفرصة الذهبية التي أتاحتها ثورة الياسمين في العودة إلى الديار واقتطاع جزء من كعكة السلطة التي تركها زين العابدين بن علي وولى هارباً خارج البلاد.وامتلك الغنوشي ما يكفي من الحكمة ليدرك أن الشعب التونسي لن يرضى باستبدال طاغية ديني بالطاغية العلماني. ويقول البعض إن الغنوشي تخلى عن خدعه التآمرية التي اعتادها لسنوات طويلة وذلك بفضل كريمتيه اللتين نشأتا في المنفى في لندن وذلك لصالح سياسة توافق الآراء.ومن الذين هربوا من المصائر السوداء أيضاً كان رجب طيب إردوغان الذي بنى حياته السياسية عبر العقدين التاليين على «تجمع الخرطوم»، وانتهى به الحال ليكون أول رئيس منتخب في تركيا. ويزعم معارضوه ونقاده أنه يحاول الآن فرض نظام الترقي على تركيا ذلك الذي اعتمدوه قبلاً في «تجمع الخرطوم».وضمت «مسرحية الخرطوم» كذلك قادة الفصائل الفلسطينية كافة تقريباً، تلك التي كرّست جهودها للكفاح المسلح، غير أن أياً منها لم يُدرج على قائمة اللجنة العليا في التجمع المشهود. والبلدان الخمسة ذات الأعداد الهائلة من السكان المسلمين: الهند، وإندونيسيا، وبنغلاديش، وباكستان، ونيجيريا، لم يكن لها تمثيل يُذكر في تلك اللجنة.وكانت هناك ميزة أخرى اتسمت بها المسرحية السياسية التي أخرجها حسن الترابي: أنها جلبت معاً ألدّ الأعداء داخل العالم الإسلامي، بما في ذلك كبار ضباط أجهزة الأمن الإيرانية جنباً إلى جنب مع نظرائهم في أجهزة نظام الطاغية العراقي صدام حسين.وفي مقابلة مع أحد الصحافيين الفرنسيين، والتي نشرت في طيات كتابه في وقت لاحق، تفاخر حسن الترابي بأنه مفجر الانهيار الجليدي الذي من شأنه أن يدفن عالم الصهيونية والصليبية الفاسد بأسره دفعة واحدة. حسناً، لم يحدث من ذلك من شيء في الواقع حتى الساعة. وما شهدناه يُدفن هو أمل الشيخ البائس الذي استحال شبحاً يطارد آيات الله في طهران اليوم. وكما قال الشاعر الإيراني ظهير الدين أبو الفضل فاريابي: التاريخ هو مقبرة الآمال البائسة!