يبدو أن موضوعة (النسوية) باتت تشكل هاجسا مترسخا في تفكير الشاعرة ابتهال بليبل، فقد اتخذت الموضوعة مسارها العميق في أغلب كتاباتها إن لم تكن كلها، حتى أصبحت نصوصها الشعرية فضاء ممتلئا بالشؤون الشخصية والعامة للمرأة، حافلة بتفاصيل متنوعة، يمتزج فيها الجسدي بالفكري، والحسي بالمعنوي، فهي تفتح بوابات خزائن الجسد الأنثوي بانسيابية من دون أن تتسبب بالخدوش لتطل بعد ذلك على ما يحيطه من فضاء ملتقطة صورا مضيئة لأدق التفاصيل وأكثرها عتمة. ولعل من أحد مميزات أسلوب ابتهال بليبل هو أن تعاملها مع الجسد الانثوي ليس تعاملا إغرائيا، رغم أنها تلجأ الى استخدام صور إشارية واضحة وصريحة للأماكن المثيرة لذلك الجسد، غير أنها تعمد الى تفريغها من المثير الإغرائي الحسي؛ لتحملها بدفق من المثيرات الإنسانية والفكرية، وربما كان في ذلك محاولة لتخليص هذا الجسد من أحادية النظرة الذكورية المرتبطة بالشهوة الغريزية فقط، وتحويل وجهة تلك النظرة الى الأبعاد والوظائف الأخرى الملقاة عليه، وقد تجلى هذا في العديد من نصوصها الشعرية والنثرية، ولعل في ذلك تماهٍ مع رؤية سيمون دي بوفوار (التي ترى أن الرجل يسعى الى تسليع المرأة، وانتزاع إنسانيتها، والرمي بها داخل ممتلكاته) /وفقا لمحمد السعد/ جريدة الوطن السعودية/ وهذا ما يتجلى بوضوح أيضا في العديد من نصوص مجموعتها الأخيرة الموسومة بـ (مائلات من ثقل دمعة) الصادرة عن الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق عام 2020. ويمكن أن نجد في هذا المقطع مثالا لذلك، إذ تقول: (لا رائحة تخدر الغصن المائل، لا عمليات لتكبير حجم الثدي، لا ملصق اكسسوار لانتصاب حلمة ثدي، و]لن[ تحتاجين لبودرة برونزية أو لكريمات مرطبة لتزيين أحزانك.) ص69. إن الاشارة الصريحة للأماكن الحساسة في الجسد (المثيرات) لا يعني أن في ذلك جراءة وخدشا للحياء كما يرى البعض، بل إن الجراءة والخدش يتحققان متى ما استُعْمِلتْ تلك الإشارة بأسلوب إغرائيٍّ محض، أمّا الإشارة المجردة فمن غير الصحيح إدراجها أو تصويرها ضمن ذلك الأسلوب. ولعل في القرآن الكريم شواهد كثيرة من هذا القبيل من مثل قوله تعالى: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} [النور : 31] {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء : 22]. ومن هنا نرى أن الشاعرة قد لجأت الى استخدام مفردة (ثدي) بدلا من مفردة (نهد)، وهو ما جعل من الصورة مرتبطة بعاطفة الأمومة أكثر منها بالغريزة الجنسية؛ لاختلاف مدلولية الدال، فالدال الأول (الثدي) تستحضر دلالته الإيحائية صورة الارتباط الطفولي بين المتلقي وهذا الجزء من أجزاء الجسد الأنثوي، في حين ترسم صورة مفردة (النهد) بدلالتها الإيحائية خطاً مستقيما بين ما تكوِّنَهُ المفردة من شكل إثاري والعملية الجنسية، ومع إن عبارة (انتصاب حلمة) ممكن أن تجعل من الايحاء الصوري أكثر قربا من المثير الجنسي، إلّا أن التصاقها بالمضاف إليه مفردة (ثدي) هشَّم تلك الصورة وجرَّدها من ذلك المثير، على اعتبار أن تغير مستوى الدال يؤدي الى تغير مستوى المدلول. ومما تتميز به نصوص الشاعرة أيضا، هي تلك التشبيهات الصادمة، التي تفتح مساحات واسعة للتخيل، تجعل الصورة الذهنية تأخذ أبعادا هلامية غير مستقرة في تشكلها، ولعل في هذا المقطع مثالا لذلك إذ تقول: (مع العاشق، وقلبه المفتوح على تشوهات لا تسع غيره، بقيت.. وتشبثت أكثر، وكأنك شاش غائر بالحلم والدم، والروح.. إزالته تعني قيامة ألم عميق هكذا صرت معزولة في مكان بعيد كصوت اسطوانة الفونوغراف ( ص49. إن تشبيه المعشوق بـقطعة الـ (شاش) ينقله من صورته الفاعلة أو المتفاعلة الى صورة خارجية ذات تأثير محدود، رغم تغوّره في العمق المؤثر (الحلم والدم والروح)، ورغم أن هذا التغوّر جعل من إزالته تسبب (ألماً عميقاً)، ولكنه يبقى مجرد غطاء يقي الجرح من المؤثرات الخارجية من دون أن تكون له فاعلية الشفاء، ولذلك فإن بقاءه لا ينتج عنه سوى الإحساس بالعزلة، العزلة التي تشبهها الشاعرة (بصوت اسطوانة الفونغراف الذي انقطع استعمالها)، وفي هذا أيضا بعدا دلاليا ينفتح على عدة تصورات ترسم في الذهن طبيعة الحياة التي يعيشها الطرفان (العاشق والمعشوق). ومما يمكن أن نلحظه في الأسلوب البنائي لنصوص هذه المجموعة، أن التقنيات السردية هي الأسلوب الغالب في طريقة تناول تفاصيل الحياة اليومية المتعلقة بالمرأة وشؤونها الذاتية، غير أنها غالبا ما تكون مشغولة بالشكل الخارجي للجسد الأنثوي وتفاعلاته، ونادرا ما تدخل في عمق الصراعات النفسية للمرأة، وربما كان هذا ناتجا عن الإحساس بأن الشكل الخارجي يمثل هاجسا دائما وذا تأثير مهيمن على التفاعلات والانفعالات الداخلية للمرأة؛ لذلك فإن مساحة الحديث عنه أخذت حيزا واسعا في معظم النصوص. (كان الشيب في متاهة ذلك الرأس مثل ثقوب سفينة في بحر- تشوكشي- بعد أن احتضنته الثلوج، بقساوة الطبيعة والأدوار، انتبهت الى وحدتها وتذكرت خسائرها المزينة بالبدايات، متباهية بالصبغة الجديدة بشغف خصلات الشعر التي تتساقط مع أصابع عارية من الإشارات كما النهايات) ص73. كما أن الشاعرة قد عمدت الى استخدام تقنية (الفلاش باك) في نصوص أخرى، وهو ما مثل محاولة للهروب الواعي نحو فضاءات الماضي المتسمة بالحيوية وجماليات الطفولة وبراءتها، إلا أنها رغم تلك المحاولة تبقى عالقة في تراكمات الحاضر الذي يحاصرها بتفاصيله المؤلمة؛ وهو ما جعلها تلجأ الى استخدام (طوق الهولا هوب) كدال رمزي محمل بمدلولات متعددة، تنفتح على العديد من التفاصيل الحياتية المليئة (بالانكسار). (مرة سقط (الهولا هوب) على الأرض، فجثوت على ركبتيّ، في الطريق.. كنت على طرف متاهة تفيض بالانكسار العميق، وحركاتي مملوءة بأجساد كثيرة على الطرف الآخر) ص36. ولعل هذا الانكسار الممتد في مساحة الروح، هو ما جعل من قطرة الدمع التي يحتضنها الجفن أن تكون بهذا الثقل الذي استطاع أن يميل تلك الاجساد التي طالما كانت تقف باستقامة وشموخ.