نشرت صحيفة السياسة، في عددها الصادر يوم الأحد، الموافق 12 فبراير الجاري، موجزاً لما يتم تداوله داخل مجلس الأمة ومن بعض النواب بأن اللجنة المالية ستناقش في اجتماعاتها المقبلة عدداً من المقترحات بتعديل قانون الصندوق، بما فيها مقترح قدمه مقرر اللجنة المالية النائب صالح عاشور بضرورة موافقة مجلس الأمة قبل منح القروض (استحداث هيئة للرقابة تدقق على عمله واستقطاع %25 من الأرباح لدعم مؤسسة الرعاية السكنية). ومع كل التقدير للنائب المحترم، فالواضح أنه بعيد عن الأنوار التي أشعلها صندوق التنمية في فضاء الدول النامية، لا سيما في قارة أفريقيا وبعض دول آسيا وأميركا الجنوبية، ولم يلمس الانبهار المتدفق الذي يضخه الصندوق لدى المسؤولين في هذه الدول المأخوذين بسخاء الصندوق، لصدق نواياه وسلامة أهدافه ونبل أخلاقه، وجاء من هذه الحقائق التفاعل البناء مع اسم الكويت وإحاطتها بمحبة صافية تصدر من عقل وقلب هذه الدول، فأنا من الذين وقفوا بإعجاب على العلاقات الحميمية والنبيلة بين الصندوق وبين زعامات هذه الدول، سواء في مشاهد داخل الأمم المتحدة أو في الجولات الثنائية التي كان يقوم بها المرحوم الشيخ صباح الأحمد في أفريقيا وآسيا. ومن خير الصدف أن موقع الكويت في ترتيبات الجلوس في الأمم المتحدة يخضع لإملاءات التسلسل والحروف، فدائماً ما يكون مقعد الكويت بين ليسوتو الدولة الأفريقية الفقيرة، ولبنان الدولة العربية المنكوبة، وأسمع صوت الاعتزاز بدور الصندوق في تبني خطط تشييد البنية التحتية للدول الأفريقية والدول العربية، وبأسلوب ودي وشروط مخففة أقرب إلى الإسهام المجاني. كانت الوفود الأفريقية تروي لنا في لقاءاتنا في الأمم المتحدة وفي المؤتمرات الدولية حكايات عن إنجازات الصندوق، مع إعجاب كبير بروح الإيمان والإخلاص التي يتميز خبراء الصندوق بها في التفاني بتنفيذ المأمورية الإنسانية التي يحملونها، وبروح فدائية تشهد لها تنقلاتهم بطائرات صغيرة مهترئة، فلا توجد هناك تنقلات سهلة وآمنة، فلا بديل عن أسطول قديم لم نعد نراه في الخليج أو في أوروبا. قام المرحوم الشيخ صباح الأحمد، عندما كان نائباً لرئيس الوزراء، وزير الخارجية، بجولة في شمال أفريقيا وبعض الدول الأفريقية، كان ذلك بعد الغزو، وشارك في الوفد - الذي كنت من بين أعضائه - كل من السيد هشام الوقيان، نائب المدير العام، ممثلاً للصندوق، الذي انشغل طوال الوقت بمقابلات مع الوفود الأفريقية التي كانت تتصل بالوفد لترتيب لقاءات مع السيد نائب المدير، ونادراً ما كنا نراه في النهار. شعرت من كثافة الاجتماعات، التي تمت مع السيد نائب مدير الصندوق، بوجود عصا سحرية يملكها الصندوق ومشبعة بمغناطيس يشد الطرفين في ديمومة الالتصاق وحميمية التفاهم. كنت أقابل السيد هشام الوقيان كل مساء بعد جولاته بين الوفود الأفريقية، متسائلاً بإعجاب عن هذه الشراكة التي بناها الصندوق مع هذه العواصم، ودورها الإيجابي في الثناء على الكويت، فقد تصوروا الكويت منجماً يتميز بوفرة العطاء وصفاء الصداقة. حققت الكويت من أريحية كرمها، ومن تلقائية سلوكها، ومن مودة عطائها، ومن فدائية ممثليها، موقعاً متميزاً في أجمل المسارات التي تسلكها الأمم المتحدة، لتحقيق التشاركية الإنسانية التي يدعو إليها الميثاق، والتي تتولد من تصاعد الترابط الاقتصادي ووحدة المصالح وتلاقي المصير الواحد. ففي كل محفل تنظمه الأمم المتحدة، تتواجد الكويت بإيجابية، وإذا كان الحصاد السياسي للمنظمة الضخمة متواضعاً، فإن عطاءها في المجال الاقتصادي، ممثلاً في التبرعات للدول الفقيرة عبر المنظمة أو ثنائياً وفق تسهيلات الصندوق، جعل مقعد الكويت الإنساني في الصف الأول متوهجاً ومؤثراً في لقاءات التبرع التي تضم دول أوروبا ودول الخليج، وقليلاً من الآخرين. وممكن القول إن أعضاء في مجلس الأمة لم يقفوا على حجم الشهرة، التي ارتبطت بالكويت كدولة خير وإحسان لا تسعى إلى استخراج المكاسب من مساهماتها، ولا تضيق على أحد في مشاركتها، وتظهر المرونة والتفهم في حواراتها مع المستفيدين. ومن أهم عناصر الجاذبية في العطاء الكويتي يتمثّل في التعالي على التباينات في السياسة وفي نظم الاقتصاد، فلم تتوقف الكويت عند عقدة اليسار واليمين المتطرف، أو حكم الأيديولوجيات، ففي مسارها الإنساني تحلّق عالياً لا تنشغل بما يزعج الآخرين، ولا تخشى من عتاب ممّن لا يستهوي نظاماً ساعدته الكويت، فلا تتواجد نزعة السخط ضد فريق أو الإغداق على طرف آخر، وإنما العامل الحاسم هو جودة المشروع ودوره في التنمية، فالصندوق لا يضع يده في مشروع يكسب منه النظام دعاية مظهرية. نحن ندرك قدرنا أن نعيش في بلدنا بفنون الدبلوماسية الطيبة والناعمة والداعية إلى التآخي، وصوتها العالي يدعو إلى الشراكة الإنسانية الخيرة، فهي رصيدنا الجاذب، ويجب ألا نقلل من دور هذه الدبلوماسية في الفزعة العالمية، التي تصدت لعملية الغزو التي دبرها تجمّع قطاع الطرق الحاكم في بغداد، الذي أنهى حياته قرار مجلس الأمن في شرعية التدخل الإنساني لإنقاذ شعب العراق من توحشه. ولا بد أن نشير بتقدير إلى الأمم المتحدة بإعلانها اختيار أمير الكويت المرحوم الشيخ صباح الأحمد أميراً للإنسانية، فلم يأت هذا القرار من فراغ، وإنما من سجل ذهبي حافل يتميّز بالرحمة والتسامح، انتشر في محيط الدول النامية وداخل المنظمات العالمية، بتنوع اختصاصاتها. كان دور صندوق التنمية عظيماً وبارزاً في هذه الخطوة الرائعة، التي جاءت من السكرتير العام للأمم المتحدة، تثميناً لمقام الكويت عطاء وسلوكاً وخلقاً. يظل صندوق التنمية لوحة لامعة بمضمونها في الإسهام في بناء دول وإسعاد شعوب في تأمين جاهزيتها للانطلاق نحو التنمية، وسعيها للقضاء على الفقر، وتستمر هذه اللوحة طالما استمر الصندوق معافى في عطائه ومستقراً في أعماله، ومحصناً من تسللات السياسة وبعيداً عن تحرشاتها. من محاسن التاريخ أن يتزامن المسعى السلبي لتبديل النهج الطيب لصندوق التنمية مع هذه الظروف الحرجة، التي دفعت الكويت لتفتح منابع الخير والعطاء لتخفيف الدمار الذي ضرب تركيا وسوريا، وأدى إلى وفاة أكثر من ثلاثين ألفاً من الأبرياء، الذين راحوا ضحية الزلزال المخيف وهم مطمئنون في بيوتهم، ونتابع مشهد التآخي الإنساني الذي تسيد أجواء الكويت، ومن هذه الصورة اللامعة للحس الكويتي نحو وحدة الآلام وترابط الآمال.. ونردد بقوة بأن مسببات وجود صندوق التنمية بثوبه الحالي لا علاقة لها بالبحث عن فوز سياسي أو إعلامي، وإنما جاء الصندوق من كوكب جامع لظواهر السخاء والتفاعل الإنساني، التي تسطع في فضاء الكويت وفي عروقها، ولعل برلمان الكويت يحمل هذا السجل الرائع استجابة لأصوات الفقراء في الدول النامية.