من المؤمل أن تباشر حكومة السيد الكاظمي اعمالها بعد نيل ثقة البرلمان في الاسبوع نفسه الذي يسري فيه اتفاق الدول المصدرة والمنتجة للنفط، أوبك +، هذا التوقع المتفائل مبني على ما يتسرب من اجواء ايجابية تحيط مفاوضات تشكيل الحكومة، رغم الصعوبات المتوقعة. العراق دخل محنة الأزمة المالية والاقتصادية، والخبراء الاقتصاديون يعرفون اكثر من غيرهم المعنى الحقيقي لهذه الازمة، عندما يتعاملون بلغة الارقام ويصطدمون بواقع الارقام المرعبة عن انخفاض ايرادات العراق المالية الى الثلثين وارتفاع الكلف التشغيلية لماكينة الدولة التي زادتها الحكومة المنصرفة ارتجالا وتخبطا، ستؤثر هذه المعطيات حتما في المجتمع العراقي وافراده، نفسيا وقيميا وسيهتز الوضع السياسي والامني عندما تتقلص المائدة المالية كثيرا وتشح اموال الوزارات وتتقلص التدفقات المالية، التي كانت تجنيها القوى التي نجحت في مد ايديها الى كل مرافق الدولة، التوقعات تذهب الى ان الأزمة المالية ستضرب العصب الحساس للاحزاب والكتل التي بدأت تحتاط من الآن لمصالحها بالاستقتال على تولي المناصب التي تأمل منها جبايات مالية ومصالح وعوائد غير تلك التي تسللت اليها من قبل وجعلتها ضرعا يمدها بالبيض الذهبي . المشكلة ستكون اكبر من طاقة الحكومة واقوى من كل الخيارات المحتملة، فلا الاحتياطي المالي لدى البنك المركزي يكفي لتمويل عجز الموازنة على فرض تعاون البنك مع الحكومة في هذا المضمار، فما موجود لا يزيد على 67 مليار دولار ،وهو احتياطي مقبول لو لم تكن الحكومة مضطرة لتمويل عجز موازنتها الذي سيبلغ 50 بالمئة اذا افترضنا ان الايراد المالي لن يبلغ 30 مليار دولار في احسن التقديرات، وسيكون تدبير رواتب واعانات 7 ملايين عراقي محنة عصيبة اذا تذكرنا ان ذلك يتطلب 50 مليار دولار لوحدها، ناهيك عن متطلبات التشغيل الاخرى، مع استمرار ضغط مافيات التجارة ووكلاء الاستيراد الذين اخرجوا العام الماضي 2019 اكثر من 60 مليار دولار لتغطية مستوردات وحوالات مصرفية ذهبت بلا رقيب ولا حسيب . نحن بازاء أزمة خطيرة بكل المقاييس ولا ينفع معها الخطابات الشعبوية وضجيج بعض النواب وخطباء السياسة والاعلام. ولا حل سهل على الاطلاق، فرئيس الوزراء المكلف يدرك ان النجاح في معركة ادارة الازمة المالية يتطلب الاستعانة بخبراء اقتصاد عراقيين لايخضعون لابتزاز وارتجال قادة الاحزاب وممثليهم في البرلمان، ويتعين اختيار مجموعة منسجمة من الوزراء الاقتصاديين يضعون حدا للاسفاف المستمر منذ عام 2004، حيث تغلبت لغة المصالح السياسية والزبائنية المبتذلة على منطق الاقتصاد ومعادلاته وقوانينه ،حتى بات العراق مثالا للفرص الضائعة والفساد المحمي بالبنادق . يتحدث المتفائلون عن امكانية تحويل التهديد الخطير الى فرصة ممكنة، لكن الفرصة الوحيدة التي لم تفت بعد هو التوجه الى الانتاج واقفال المنافذ الحدودية امام المستوردات، وتقليص الانفاق الاستهلاكي وتعديل سلم الرواتب وتقليص الفوارق بين طبقات الموظفين وفرض ضريبة تصاعدية على الدخل الفردي . امام الحكومة سلة قرارات غير شعبية مصحوبة باضطرابات اجتماعية، لكن التعديل الهيكلي للاقتصاد صار اكثر من ضرورة ولا بد من مصارحة الشعب في اول فرصة لتبدأ تعبئة نفسية واعلامية عامة حتى يتكيف العراقي مع اقتصاديات التقشف والاكتفاء بالضروريات، وهي أشد من اقتصاديات الحرب التي لم يبرحها الا قليلا ،اما العودة الى الرفاه النسبي، فستكون معلقة على تدوير الاقتصاد من حالته الريعية البائسة الى اقتصاد منتج وهو شرط لن يتحقق الا بسنوات من فكر وسياسة نهضوية لن تنتجها الطبقة السياسية الحالية، التغيير السياسي سيكون مقدمة للنهوض بالاقتصاد المتداعي والفكر اليومي الكسول. العالم سيتغير من حولنا ونحن مضطرون للتكيف مع الواقع الجديد بكل متغيراته السياسية والاقتصادية والفكرية