في ليالي رمضان المباركة، حين تتهادى نفحات الروحانية وتصفو القلوب بالتأمل، نعود إلى ينابيع الذاكرة، حيث اللحظات الأولى التي أوقدت فينا الشغف وألهمت دربنا. هذه المرة، نرافق كوكبة من السينمائيين في رحلة شاعرية إلى طفولتهم، حيث لم تكن الأفلام مجرد تسلية عابرة، بل كانت نوافذ تطل على عوالم لا تحدّها سماء، ومصابيح تنير الدروب نحو عالم الإبداع والإخراج. نسألهم عن تلك الشرارة الأولى، عن الأفلام التي لامست شغاف قلوبهم وأشعلت الحلم السينمائي. نتذكر جميعًا تلك السينما العتيقة في الحي، ذات المقاعد المخملية البالية التي تئنّ تحت وطأة الزمن، ورائحة الفشار التي تعبق في الأرجاء، لتنعش ذاكرة الطفولة. نستأذن ضمن هذه السلسلة الرمضانية، و التي أطلقنا عليها "بوح الشاشة" أرواحهم لنتصفح صفحات طفولة حالمة، تحمل بين طيّاتها مواقف وذكريات عابقة في الزمن، نرويها بلسانهم وننقلها بأمانة. نستضيف في هذه الحلقةٍ من "بوح الشاشة" المخرج الشريف الطريبق، الذي يشاركنا رحلته الخاصة مع الفن السابع، رحلةٌ بدأت بصورةٍ باهتةٍ من فيلمٍ شاهده في طفولةٍ بعيدة.يستحضر الطريبق أول عرضٍ سينمائيٍ حضره وهو واعٍ، كان فيلم رسومٍ متحركةٍ عُرض في المدرسة الابتدائية بآلة عرض 16 ملم، وهي آلةٌ سينمائيةٌ صغيرةٌ لم يعد يعرفها جيل اليوم، حسب وصفه يصف لنا سحر تلك اللحظة، حيث يخرج ضوءٌ من الآلة ليعرض الصور على الشاشة. ويتذكر أستاذه "بومنينة"، الذي شرح لهم مبدأ الصورة المتحركة، وكيف أن فيلمًا شفافًا يحتوي صورًا متتاليةً، يمر عبر ضوءٍ وعدسةٍ مكبرةٍ، ليخلق وهم الحركة على الشاشة. في تلك المرحلة، ارتبط الطريبق بالسينما ليس كمشاهدٍ فحسب، بل كصانعٍ. يتذكر أنه عندما نجح في "الشهادة"، تمنى أن يشتري له والده دراجةً هوائية، لكنه لم يستطع، فاشترى بدلًا منها جهاز عرض 8 ملم، وهو جهازٌ سينمائيٌ صغيرٌ للهواة. لم يستخدمه قط، لكنه احتفظ به، وشكل مجموعةً من الأصدقاء المهتمين بالسينما، يتبادلون أجهزة العرض والأفلام القصيرة، كأفلام "تشارلو" وبعض الرسوم المتحركة. يضيف الطريبق أنه قبل أن يُسمح له بدخول السينما في المرحلة الإعدادية، كان ممنوعًا من ذلك. وكانت علامة الدخول إلى السينما في المنزل هي رائحة السجائر! كان يمر بجانب سينما، حيث يمكنه رؤية الشاشة من بابٍ خلفي، وكان يجمع بقايا الأفلام التالفة من مكان رمي النفايات، ويستخدم مصباحًا صغيرًا ليعرض الصور على الحائط، وكأنه يشاهد فيلمًا. كما يروي كيف كانوا يصنعون "سينما" بدائيةً في مدخل منزل أحد أصدقائه. كانوا يشترون علبةً كرتونية، ويضعون فيها ورق "بابيي كالك" (ورق تغليف علب السجائر)، ويستخدمون ألعابًا صغيرةً مجسمةً وشمعةً لخلق حركة الظلال، ويتقاضون 20 سنتيمًا من الأطفال الآخرين لمشاهدة هذا "العرض". يتذكر كيف أن السينما كانت تحظى بسمعةٍ سيئةٍ في مدينته، وكانت تعتبر ملجأً لمتعاطي المخدرات، على عكس ما كان عليه الحال في جيل والديه. لكنه يتذكر فيلمًا هنديًا شاهده في سينما "إسبانيا" بمدينة العرائش، وبقيت صورةٌ واحدةٌ منه عالقةً في ذاكرته.أما السينما التي استعادت اهتمامه بالسينما في المرحلة الإعدادية، فكانت سينما "أبينيدا"، لأنها كانت تعرض أفلامًا أوروبيةً وأمريكيةً وعربيةً ومغربيةً جيدة. كانت تقع في طريقه إلى المدرسة، وكان يمر بها يوميًا ليرى ملصقات الأفلام المعروضة، ويخطط لمشاهدة الأفلام في المساء، حسب جدول العروض. بالموازاة مع السينما، كانت علاقته الأولى بالفن السينمائي من خلال المسرح. يتذكر كيف كان عيد العرش مناسبةً مهمةً لاكتشاف المواهب المسرحية. لكنه سرعان ما أدرك، بسبب اهتمامه بالتكنولوجيا السينمائية، أنه يريد أن يكون خلف الكاميرا، وليس أمامها. كان يحلم بإخراج أفلامٍ تستخدم المؤثرات الخاصة، ويتخيل أنه سيصور مبنىً صغيرًا ويحرقه ليوهم الناس بأنه مبنىً حقيقي. لكن في طفولته، كان التصوير صعبًا لندرة الكاميرات. فكان يتخيل الفيلم الذي سيصنعه. أدرك مبكرًا أنه يريد أن يكون مخرجًا، دون أن يعرف بالضبط ما هو الإخراج أو التصوير. وبسبب ندرة الكتب والمعلومات، حاول أن يفهم هذه المفاهيم من خلال القراءة. اكتشف أن الإخراج السينمائي ليس مجرد تقنية، بل هو مشاهدة الكثير من الأفلام، والاطلاع على تاريخ السينما، وفهم الموسيقى وعلم النفس. أدرك منذ البداية أن السينما مسارٌ طويلٌ من الدراسة والمعرفة، وأن المخرج يجب أن تكون لديه رؤيةٌ للعالم. وكأن الطريبق يؤكد أن الشغف بالسينما يمكن أن يولد من أبسط الأشياء، وأن الطريق إلى الإبداع يبدأ بالفضول والاكتشاف، ويتطلب صبرًا ومثابرةً وتعلمًا مستمرًا.