×
محافظة الغزالة

"تيفْلوينْ نايت أومارك" ح11: الرايس سعيد أشتوك.. الحنجرة الدافئة المتدفقة بالحب

صورة الخبر

تيفلوين نايت أومارك"، نبش في ذاكرة فن تيرويسا، ومحاولة لإعادة صياغة ماكتبه الباحثون والمهتمون بالفنون الأمازيغية، خاصة بسوس والحوز. طيلة شهر رمضان، جولة للقراء بالحرف والكلمة، وسفر في السيرة الذاتية لرواد فن الروايس ، أغلبهم التحق بالرفيق الأعلى، تجمعهم تيمة القناعة والصمود، وحمل مشعل هذا الفن. في الحلقة الحادية عشرة، من برنامج "تيفلوين نايت أومارك" ، يخصص موقع القناة الثانية، مقالا للحديث عن الرايس سعيد اشتوك، نزار قباني الأمازيغ، ارتبط اسمه كثيرا بالغزل والعشق، لكن مسيرته الفنية كانت استثنائية، وإن صح القول أنه يرتدي جبة الفن في الساحات فقط، وليله ليس كنهاره. ابن الفقيه : ولد المرحوم الرايس سعيد أشتوك بقرية بيزوران، قبيلة إدَاوْبوزيا التابعة للنفود الترابي سيدي بوسحاب في الثلاثينات من القرن الماضي ، ودخل لفن ترويسة مند طفولته الى أن توفاه الله يوم 7 شتنبر 1989 تاركا وراءه خزانة عريضة بأغاني خالدة ، لازال كبار الفنانة الأمازيغ بسوس يرددونها على لسانهم بمعظم الحفلات. ولد الرايس سعيد بقرية بيزوران، قبيلة إدَاوْبوزيا اقليم شتوكة ايت بها في الثلاثينات، والده كان فقيها، أصله من أيت صواب (قرية أيت واغزن). تعلم سعيد أشتوك الطفل، القراءة والكتابة، وحفظ شيئا من القرآن في كتاب القرية، لكن سرعان ما تعاطى للعمل، بدأت مواهبه في نظم الشعر والعزف على آلة لوطار تظهر منذئذ، حتى صار في فترات الراحة يتحف أصدقاءه في العمل ببعض أشعاره وأغانيه الأولى التي كان يحاكي فيها كبار شعراء الروايس الرواد آنذاك : بلعيد - انشاد - بودراع وآخرون. أولى المجالس: كتب أحمد عصيد في هذا الصدد، في مقدمة كتاب "سعيد اشتوك شاعر الحب والغزل" :" كان لابد لموهبته تلك من أن تقذف به إلى عالم الروايس ومجالسهم، حيث تعرف إلى الرايس حماد أمنتاك، وانضم إلى فرقته عام 1958 ولازمه مدة ثم انفصل عنه ليكون فرقته الخاصة وقد نضجت موهبته وصقلتها التجربة. ضمت فرقة الرايس سعيد في مراحلها المختلفة، خيرة العازفين والمنشدين من الروايس أمثال الرايس موح أعلي، والرايس عبد الله پیز نکاض، والرايس العربي أزيكي، ثم الرايس الحسين بعييش، والرايس عبد الله أعشاق، والرايس موحاين". مدرسة بذاتها: كتب الاعلامي مبارك ادمولود شهادة في حق الراحل سعيد اشتوك، ونشرها بجريدة الصحراء المغربية، عدد 1709 الصادر في 18 شتنبر 1993، جاء فيها:" تخرج من هذه المدرسة كل من جامع الحاميدي ورقية تالبنسيرت، وفاطمة الناشطة، وعبد الله نكاصن، وتبعمرانت وغيرهم. وقد سئلت الفنانة الكبيرة رقبة الدمسيرية حول ما تعلمته من سعيد أشتوك فقالت، إنها لم تتعلم منه طرق وضع الكلمات وتلحينها فقط، بل أضافت:" لقد علمني الرايس سعيد كل شيء، يتعلق بطرق المعاملة مع الجمهور، وعلمني كيف تتكون علاقة الفنان بجمهوره، ووسطه المجتمعي، وقد كان ذلك كله أساسيا، حتى أتمكن من شق مشواري الفني بدون أخطاء، وأضافت الرئيسة رقية الدمسيرية، إنها لن تنسى أبدا تشجيعات الرايس سعيد أشتوك، وعطفه الأبوي عليها، وإرشاداته الفنية لها حتى تواصل وتشق الطريق الذي كان مليئا بالعقبات والصعاب، ومن خلال هذه الشهادة يتضح جليا أن الرئيس سعيد أشتوك، كان بالفعل صاحب مدرسة تكوين الروايس، ليكونوا خير نموذج يحتذى به في الميدان". (انتهى كلام ادمولود) وارتباطا بشهادة الرايسة الكبيرة رقية تالبنسيرت، أو الدمسيرية، فقد خصصت له أغنية بعد وفاته، ذرفت خلالها الدمع طيلة أدائها للأغنية، ولبست الأبيض في فيديو الأغنية حدادا على وفاته، إيمانا واعتراف بدوره الكبير في مسيرتها الشخصية والفنية. نهاره ليس كليله: كل الروايات سواء المكتوبة أو الشفهية على لسان أصدقاء الراحل سعيد اشتوك، تؤكد أنه كان فنانا استثنائيا، فنهاره مختلف عن ليله، يلبس جبة الفنان ليلا فقط، وبالنهار، يتفرغ لمسؤولياتها المتعددة سواء الأسرية، أو التي تتعلق بمهنته وهي الفلاحة، والسياسية بحيث كانت منتخبا أوائل السبعينات بجماعة بلفاع، حتى أنه لم يكن يضع أدولاته الموسيقية بمنزل أسرته الصغيرة، بل اكترى منزلا بالدشيرة، وخصصه لذلك. خارج "الحلقة": لم يُعرف عن سعيد أشتوك، أنه قد غنى في “الحلقة”، كما هي عادة الكثير من الروايس، إلا مرة واحدة كان فيها متفرجا، ثم اضطر للدخول، إلى حلقة أستاذه أحمد أمنتاكَ بأكادير، للدفاع عن هذا الأخير، بعدما سمع كلاما أثر فيه خارج الحلقة. يتذكر الرايس جامع أزيكي، تلك الواقعة:" أتذكر مرة أن الرايس حماد آمنتاك كان يغني في حلقته بأكادير، فحلت بجانبه فرقة من روایس مراکش، فشدوا إليهم انتباه الجمهور، وانصرف الناس عن الرايس امنتاك، وصادف ذلك وجود الرايس سعيد ضمن المتفرجين بحلقة الرايس أمنتاك، فسمع أحدهم يقول (روايس ان مراکش آیگان روایس ورد وین آگادیر)، فتملکت الأنفة والحماسة الرايس سعيد، وتقدم إلى داخل الحلقة وانتزع الرباب من أحد الروايس المرافقين لأمنتاك، وما أن رفع حنجرته بالغناء حتى ضج الناس وهتفوا باسمه..كنت حاضراً يومذاك وشهدت كل ذلك بأم عيني". فنان متكامل: عن ثقافته الموسيقية، فقد أتقن الرايس سعيد أشتوك، الضرب على “تالُّونت” (الدف) منذ الصغر، ثم تعلم العزف على “لوطار” فأتقنه كما أتقن العزف على “الريباب”* والضرب على “الناقوس” فجمع بين التوقيع على الآلات الوترية، وإتقان الإيقاع وتجويد الأداء بفضل ما يتمتع به من حنجرة جيدة، ويكون في أوج عطائه وسعادته حينما يساعده المحترفون في فرقته ولا يتغيب منهم أحد، ويلتقي بجمهور متذوق يجمع بين التلقي الواعي والمتعة الفنية. فلاح ورياضي: كان الراحل سعيد أشتوك، محبا لكرة القدم مدعما لأندية المحلية، بمدينة بيوكَرى ماديا ومعنويا، حيث كان رئيسا لتقدم بيوكرى لكرة القدم، ومواضب على حضور مباريات حسنية أكادير، وتواجد دوما بجانب الغزالة السوسية، بملعب الانبعاث، وهو الاهتمام الذي ورثه عنه ابنه الدكتور محمد بيزران، الذي تقلد بدوره مناصب بمكتب حسنية أكادير، ومازال عضوا منخرطا بالنادي. إضافة إلى ذلك، فقد كان الراحل معروفا بكونه يمارس الفلاحة، كنشاط رئيسي، والفن كنشاط ثانوي، إذ لم يسجل عليه التاريخ أنه احترف الفن، بل كان يصرف على الفن، بمساعدة الفنانين خاصة الرايسات والروايس الذين يعانون العوز. في إحدى المرات، دخل مع أحد الفلاحين الكبار في صفقة، وصادفت غلة الطماطم التي اشتغل عليها، ظروفا جوية قاسية أتت عليها بالكامل، ولم يمر على الواقعة إلا نزر يسير، ليحولها إلى أغنية ارتجلها في إحدى السهرات، وأعادها في مناسبات عديدة، يحكي فيها معاناة الفلاح، خاصة الذين يعتمدون على القروض البنكية، ومنذ ذلك الحين قرر الاكتفاء بأن يكون فلاحا صغيرا. "لِّي ولْدْ ماماتْ" بمبادرة من ابنه الدكتور محمد بيزران، تأسست بتاريخ السبت 26غشت 2023، مؤسسة سعيد أشتوك، بحضور بعض معاصري وأصدقاء سعيد أشتوك، ومجموعة من فعاليات الثقافة والإعلام والفكر والإبداع والعمل الجماعي والجمعوي. المؤسسة قررت العمل على صون وحماية ذاكرة الرايس سعيد اشتوك، عبر تنظيم ملتقيات وندوات للتعريف به، وحماية ملكيته الفكرية، خاصة وأن كل أغانيه غير مسجلة ومحفظة بحقوق التأليف، مما يجعلها عرضة للسرقة. وصية الوالدين: في عدد من اللقاءات الصحفية، كشف الدكتور محمد بيزران، عن السبب المباشر وراء عدم إقدام والده الرايس سعيد اشتوك، تسجيل أغانيه أسوة بباقي رواد تيرويسا الذين عاصرهم، من أمثال الدمسيري وامنتاك وواهروش وبيزماون وغيرهم، فهي وصية والده الفقيه الإمام، يقول الدكتور بيزران في حوار صحفي:" استغل والدي رحمة الله عليه تواجد جدي الفقيه، في إحدى المناسبات التي يجتمع فيها الطلبة وحفظة القرآن، ويتقدم الراغبون في الحصول على الدعاء ، فيناولونه مراده، ليتقدم والدي نحو جدي، طالبا منه أن يمنحه الاذن بالغناء، ولم يكن أمامه سوى الرضوخ لرغبة ابنه الجامحة، وربطها بشرطين أساسيين، الأول أن لا يسجل أغانيه في أشرطة، والعلة أن ذلك يتسبب في إلهاء العباد عن دينهم، وثاني الشروط عدم السفر إلى الخارج من أجل الفن". سعيد أشتوك الفكاهي : معروف في كل الحفلات التي يحييها الراحل سعيد اشتوك، أنه كان يقسم سهرته إلى فقرات، يبدأ بتقديم افراد مجموعته، ثم يبدأ بالغناء، وهنا يظهر ذكاؤه، بحيث يقرأ وجوه الحاضرين، ليفهم طبيعة مايريدونه من أشعار وأغاني، ويخصص دائما فقرة هي في الحقيقة استراحة الرايسات والروايس المرافقين له، فيعمد إلى الفكاهة وتبادل الحديث مع الحاضرين، او مع بعض أعضاء فرقته خاصة الحسين أوصالح، والحاج المكروط، هذا الأخير الذي كان لا يفارقه في كل سهراته، كما أنه ظهر في فيديو وهو يتبادل الفكاهة مع الرايس الراحل الحاج محمد الدمسيري. ومقابل الفكاهة للرايس سعيد اشتوك وجه آخر لحظة غنائه، فالصمت يجب أن يكون سيد المكان، يغلق عينيه ويبدأ في ارتجال الأغاني والنظم، وحدث وأن أوقف الغناء في عدة مناسبات، وطلب من الحضور الانضباط والاستماع إليه، في إحدى الأشرطة التي سجلها عشاق فنه يظهر صوته وهو يقول لمجموعة من الحاضرين يتبادلون الحديث:" أمامكم خيارين، أن تستمعوا، أو أن نقفل هذا الحفل، ونغادر برجل واحدة، أنا لست من الصنف الذي يؤدي مقطعين ويتوقف بحلول منتصف الليل، أغني حتى أبقى وحيدا في السهرة، دعونا نستمتع من فضلكم". الولاء للأسرة والعشيرة: جاء في إحدى الشهادات التي تضمنها كتاب "سعيد اشتوك شاعر الحب والغزل:" تقوم هذه الشريحة النشيطة ضمنها شاعرنا سعيد اشتوك، بتوفير الحاجيات اليومية لأسرها من أكل وشرب وملبس ومتطلبات التمدرس والعلاج والكراء وغيرها، بل ومنهم من ترك أطرا خدمت وتخدم الوطن والمواطنين تشقى في سبيل إسعاد الآخرين، وهذا تحول نوعي وعيا منهم بما يتطلبه العصر وكانت تلك رسالة قوية لزملائهم ممن أهملوا تربية الأبناء، ومن هؤلاء الذين تركوا أطرا الرايس سعيد أشتوك الذي ترك إطارا طبيا هو اليوم في خدمة المجتمع، وكان المرحوم إضافة إلى ذلك فلاحا ناجحا وعضوا منتخبا يدافع عن السكان بالغالي والنفيس ومن المساهمين في تأسيس فرقة حسنية أكادير ورعايتها". نزار قباني الأمازيغ: كان الراحل سعيد اشتوك، صاحب مدرسة متميزة، بتحررها من القيود التقليدية المفرطة، التي غلبها المجتمع المحافظ، خاصة عندما يتعلق الأمر بكل جمال جميل،وما يصطلح عليه بالغزليات «تايرى». يقول الأستاذ محمد المستاوي في كتابه "سعيد أشتوك شاعر الغزل والحب:" شاعرنا الرايس بيزوران سعيد اشتوك فتح باب (تايرى)، الحب العفيف على مصراعيه، يشبه نزار قباني في غزلياته، لم يترك ولو نافذة واحدة موصدة، ما أن يستمع شيخ مسن رائعة من روائعه الغزلية، حتى ترى وجهه مشرقا ضاحكا، مودعا شيخوخته، مستعيدا شبابه، تاركا التسابيح تسقط من يده، وهو يشارك المجموعة غناءها، بصوته في هذه السهرة وتلك". رسالة الى البرلماني : ذكر محمد المستاوي، في مقال له تحت عنوان:" ملاحظات أولية حول الجانب الاجتماعي في شعر الرايس بيزوران سعيد اشتوك"، منشور بجريدة الاتحاد الاشتراكي، بأن الرايس سعيد اشتوك، كان ذكيا وله من الفطنة، مايكفي لاستغلال المنصة والسهرات لتمرير الرسائل، وأورد المستاوي في هذا الصدد القصة التالي:" في إحدى أمسياته استغل الشاعر تواجده في عرس، حج إليه جمهور من الرجال والنسوة، ولاحظ وجود أحد المنتخبين بين الحضور، برلماني المنطقة، ووجه إليه خطابه، كجريدة ناطقة، وهو يرتجل الشعر ارتجالا مستعملا حنجرته الدافئة، وألحانه الرائعة، لتحمل الخطاب إلى أذن المستمعين، ثم إلى ذاكرتهم كرسالة واعية هادفة، والقصيدة التي غناها في هذا الحفل كانت طويلة و معنونة بعنوان (تاماضونت/ المرض). خاطب الحضور قائلا : نمر ا الحاج إبراهيم ءاكين وصوح أريد أن أوصيك يا الحاج إبراهيم لوازير إد تلميكيرت نحاك لما ليك الوزير الذي تلتقي به وربما الملك ئناتاس هاتي تازيرت نخاصاك ئميك قل له : إن (تامزيرت) تحتاج إلى ءاغاراس ءولاضوو ءولاسول ءامان الطريق و الكهرباء وكذا الماء ءو لايا لكوليج ءاكيسن إلين إفرخان وإلى إعدادية ليدرس فيها الأبناء. الغناء على الطليقة: كتب الحنفي ماحة، مقالا في ها الصدد جاء فيه:" عندما تألق في سهرة غنائية بايمنتانوت، يعتبر الرايس سعيد بيزران المعروف ب سعيد أشتوك (1934-1989) من شعراء سوس المعجبين بمنطقة إمنتانوت، بثقافتها، بجمالها ، بشعرائها... حيث عاشر أهل المنطقة عن قرب إلى أن تزوج بإحدى فتياتها وبالضبط حي أكادير وامسا التابع لبلدية إمنتانوت ، أثمرت هذه العلاقة الزوجية عن إنجاب طفلة لتنتهي هذه العلاقة بالطلاق. وقد شاء القدر أن دعاه " عمر بوعزيز" لإحياء سهرة حفل زواج ابنة هذا الأخير، فاستغل سعيد أشتوك فرصة تواجده بنفس الدوار، الذي تتواجد به مطلقته، فأنشد هذه القصيدة التي غاب عنها " التصنع" وغلب عليها الطابع الارتجالي، لكونه أنشدها في تلك اللحظة، تتوقف فيها الموسيقى، لأن إيصال الكلمة هنا أولى من النغمة ،فاستهل القصيدة بكلمة " أح" النابعة من صميم القلب ، مدعيا أن القدر فرق بينهما لكن عشقها لا زال ينبض في قلبه، وتساءل عن حالتها الزوجية الحالية وهل هي تعيش نفس السعادة التي عاشتها معه .. وذكر بعض خصالها المتسمة بالصبر والرزانة". قصيدة صنفت من أروع ما غناه "سعيد أشتوك" واحتلت المكانة العظيمة ضمن قصائده: تاماضونت ، رواح أنمون ، ليقامت، ضيامان، أيامارك. مرض عضال ينهي حياته: خضع الرايس سعيد أشتوك لسلسلة من الفحوصات الطبية، وأجرى عملية جراحية بمستشفى السويسي بالرباط، وبالرغم من حالته، إلا أنه كان يغني في كل المناسبات، بل وغنى حتى على رحلة علاجه، وشاء القدر أن يغادرنا إلى دار البقاء يوم 7 شتنبر 1989.