وصلتُ إلى المملكة العربية السعودية، عبر مطار الأمير سلطان بن عبد العزيز في محافظة تبوك، أتذكر اللحظة التي خرجت فيها إلى الفضاء العام للمطار بقرب مواقف السيارات، بينما كنت أنتظر «أبو تركي»، السائق المسؤول عن رحلتي المتجهة نحو محافظة «العُلا»، والتي تستغرق بالسيارة ما يقارب الساعتين ونصف الساعة إلى الثلاث ساعات، كان الهواء عليلاً وقتها في فبراير من هذا العام، وبينما الشمس على وشك الأفول، جلستُ أتأمل مسجداً أنيقاً، بالقرب من المطار، حينها نادى عليّ أبو تركي: إلى العُلا صحيح؟ بعدما شرحت له أوصافي وأني أحمل معي شنطة سفر صفراء، ابتسمت وقلت له: نعم صحيح، رد عليّ مباشرة: «لازم نقهويك، الرحلة طويلة»، واتجه مباشرة لمقهى صغير يتوسط مساحة موقف السيارات، واختار لي قهوة طيبة كما وصفها، وبذلك أعلن أبو تركي ترحاب أهل تبوك، بعفوية تامة، وبدأ الطريق، ولا يبدو لي بأني سأرى التضاريس الطبيعية لرحلتي البرية، خاصةً أننا نسري في الليل، إلا أن أبو تركي كان البدوي الترحال في أصالة وصفه لروح الجغرافيا وامتداد القبائل العربية هناك في «تبوك» حتى «نيوم»، وقال لي: «تسرين بالليل وسط الجبال البعيدة، مرسومة بخطوط الأوليين، تعتقدين أنك في وسط مدينة من ذهب أصفر، إلا أن الحضارة في عمق ذرات الحجر، وبيوت الطين اللامعة، تعالي أهديك مروية العُلا، يخبرونا عن ملحمة مدائن صالح، رغم أن نحن أهل تبوك «بِعيدْ»، لكني أجزم أن سيرة الحجر، تطواف يجسر بيننا الطريق، هناك المزارع في العُلا يمسك بيديه النخيل ويعصر من التمر سكر هالسنين، ونحن البدو في الشمال نثبت خطاوينا ونسجل بكرمنا تاريخ المسير». رائحة متفردة كل شيء اختلف تماماً مع شروق الشمس، إنها المرة الأولى التي أدرك فيها أن للجبل بهيبته الطاغية يمتلك رائحة متفردة، قد امتزجت بطبيعة الحال مع أشجار الحمضيات الشهيرة في محافظة العُلا، خاصةً بعد أن استدلت ستارة النافذة المائلة، في نُزل حميمي وبسيط بالقرب من مزارع النخيل الممتدة في المنطقة المحيطة، تذكرت نصيحة «أبو تركي» بعد أن أوصلني بسلام مسائي عند البوابة الرئيسة لنُزل: «سترينها في الصباح شامخة، أما في الليل فإنها تنصهر مع الأرض وتتوحد»، هكذا بفطرته يرمي أبو تركي مروياته الشفاهية ببلاغة ويرحل، وكأنه يفسر لي الرؤية الشعبية لبواطن تلك الجبال الموثقة للمواقع الأثرية، مثل موقع «حجر»، الذي يتضمن ما يزيد على 110 مقابر نحتها الأنباط، أبرزها مقبرة «لحيان بن كوزا»، إلى جانب مقابر «جبل البنات». ولا يُمكن التفكير بالمروية التاريخية لتلك المواقع في محافظة العُلا دونما رؤية قريبة كذلك لمقابر مملكة «دادان» التي يعود تاريخها إلى أكثر من 2000 عام، والتساؤل عن المعنى الذي بإمكانه أن يتشكل عبر تأسيس فضاء ثقافي وفني معاصر للمدينة، بالتوازي مع المكون الحضاري للمواقع الأثرية، وذلك وفق استراتيجية الهيئة الملكية لمحافظة العُلا بالتعاون مع وزارة الثقافة السعودية. وقد تنبهت لهذه النقطة الجوهرية عند زيارة منطقة «ديمومة»، المصممة في قلب «العُلا»، والتي تحتفي بأعمال تركيبية قائمة على مفهوم الانسجام مع البيئة الطبيعية، منها عمل «وردة العُلا الصوتية» للفنان الياباني يوري سوزوكي، فأول ما يخطر على بال متأمل يجلس تحت ظلال أشجار النخيل المتقاطعة مع العمل، أنه إذا ما كان أهل العُلا وأناسها يشتهرون بالزراعة، ومروا من هنا، فكيف يقرأ المزارعون التداخل بين فعل إبداعي قائم على مفهوم امتصاص الأصوات من البيئة ونقل موسيقى المكان وتكبيرها من خلال الأبواق الموجودة في العمل، وبين مشاهداتهم البصرية الفطرية للجبل والأرض والشجر، فالوصول إلى اكتشاف هذه العلاقة، ستوضح جزءاً حيوياً من هوية مستقبل المدن الثقافية عبر دمج الفن في المحيط الطبيعي والبيئة الاجتماعية. أخبار ذات صلة 1.2 مليون يتوافدون إلى مكة لأداء مناسك الحج وفد حجاج «الشارقة الخيرية» يغادر إلى الأراضي المقدسة مسيرة عبر الزمن «الناس الناس»، ظللت أرددها بداخلي، وأنا في رحلة الحافلة المتوجهة إلى منطقة «وادي الفن» في محافظة العُلا، إيماناً مني بأن مساحة شاسعة تقدر بـ 65 كيلومتراً مربعاً للمشروع، تحتفي بمسيرة فنية عبر الزمن، مقرر أن يتم استكمالها هذا العام، بكل تأكيد ستحدث اصطفافاً جماهيرياً لأهل المملكة والزوار من مختلف دول العالم، وذلك من خلال المشي على أقدامهم وسط رمال الصحراء وبين مرتفعات الجبال، للتمعن بحالة سرمدية لافتة لكيفية تشكل الفنون مع الأرض، حيث أتيحت لي فرصة مشاهدة تحضيرات لمعارض مؤقتة وتكليفات فنية وحوارات مستمرة لفنانين من السعودية والعالم، مثل مشاهدة عرض الأداء للفنان العالمي تينو سيغال، حضرت عمله «من دون عنوان» المشارك وقتها في النسخة الثالثة لـ «معرض صحراء X العُلا» لعام 2024، لن أنسى أبداً، عندما مشيت مع مجموعة من الزوار في المعرض المفتوح، باتجاه ممر جبلي، وإذ بنا نتفاجأ بشخصين يقتربان منّا في حالة من الاقتناص والانتظار، كنا فعلياً قد دخلنا في مساحة لتأدية فن أدائي للفنان تينو سيغال، ولم نع ذلك تماماً، جسدُ الفنانين كان بمثابة تطور طبيعي لصوت وشكل المكان، كان الأداء عفوياً وبرياً في تكوينه، لوهلة تخفت الهوية الجسدية للشخصين(المؤديين)، ووفقاً للأداء الإبداعي يخيل للمشاهد أنهم كائنات صافية، بتعبيرات حقيقية لحالات الاكتشاف الأول للإنسان عن حالة وجوده على الأرض، مثلما هي الدمعة الأولى والابتسامة البدائية وحالة الحركة الصامتة باتجاه كل شيء لإحداث الرغبة أو ربما التحرر منها، وقتها شعرتُ شخصياً بارتباط عميق مع المؤديين، شيء ما أعادني إلى أعماقي، وأعماق الأشياء كلها، دونما أن أصل إلى تفسير، وقد يكون هذا الهدف الأسمى، أن نعود للطبيعة دونما تفسير، كما وُجدنا فيها ببداهة تامة. تجربة روحية في الحقيقة، لا يمكنني أن أتجاوز ما عايشته من تجربة وعي روحية، مع مجموعة من المبدعين والمثقفين، وسط فضاء مفتوح ضمن مسيرة «وادي الفن»، استمعتُ خلالها إلى صوت مؤدييْن يقدمان تراتيل مطمئنة، ممثلةً عملاً فنياً للفنانة السعودية عهد العمودي، التي ترى أن أعمالها في توسع دائم نحو مساحة أكبر من الصوت والضوء، كنا جميعنا نمشي مثلما هو مفهوم الطواف في الثقافة الإسلامية، فيها تبادل مؤديان حواراً شعرياً بينهما، متخذين من مواقع مرتفعة على هضبة صخرية أو تلة رملية مسرحاً لتقديم الأداء، وبهيبة التعبير كما هو في مجالس الذكر الطويلة تغنى أحد المؤديين بالماء قائلاً: «ومثلي مفردٌ، ألف الترقي، أنا الماء الذي ربي اصطفاني بحمل الأرض، أحملها برفقي، بدوني كل هذا الكون ميت، وقد شُرفت بالوصف الأدقِ. بما معناه في آي مُبِيٍن، جعلت الماء إحياءً لخلقي». ووسط كل الذهول الذي عشناه جميعنا، بعد أن انقطعت وسائل تواصلنا مع العالم الخارجي انقطع اتصال الإنترنت على ما أذكر وأصبحنا متحدين مع الطبيعية، شاهدنا سيدة تمشي أمامنا وهي تروي الأرض بالماء استكمالاً لعرض الأداء كمن يبارك ويتبارك، ببساطة تعبيرية تسقي رتابة الوجود وتهدي الهوية قدرتها على التشكل الندي، ليستمر الحوار معنا نحن القادمون من مختلف ثقافات العالم إلى صحراء العُلا.