تمر أجزاء واسعة من المنطقة اليوم بحالة اعتلال بنيوي عميق لا يمكن اختزاله في أزمات سياسية عابرة أو تحولات ظرفية متلاحقة. ما نشهده في عدد من الساحات الإقليمية ليس تراكم أحداث منفصلة قابلة للاحتواء بإجراءات جزئية، وإنما اختلال شامل أصاب البنية السياسية والاجتماعية والفكرية لهذه المساحات، وأعاد تشكيلها تدريجيا بوصفها ساحات مأزومة تدار فيها الأزمات أكثر مما يصاغ فيها الفعل السياسي الواعي. تدل هذه الحالة من الاعتلال البنيوي الممتد عبر ساحات متعددة على أكثر من مجرد تزامن عرضي أو صدفة تاريخية. فحين ننظر إلى المؤشرات الموضوعية نجد ما يستحق التأمل العميق: التشابه البنيوي في النمط المتكرر عبر مختلف الساحات «من تفكيك الدولة إلى صعود الميليشيات إلى إطالة أمد الصراع دون حسم» يوحي بوجود «خارطة طريق» مشتركة أو منطق تدخل موحد يتم تطبيقه في سياقات مختلفة مع تكييفات محلية. التزامن النسبي لانفجار هذه الأزمات في فترة زمنية متتالية ومتقاربة يشير إلى استغلال منظم للحظة تاريخية محددة، لحظة انكشاف إقليمي تم استثمارها بمنهجية واضحة. الأدوات المستخدمة أيضا متشابهة بشكل لافت: استخدام الطائفية كأداة تفكيك ممنهجة، تسليح الميليشيات وتمكينها من موارد الدولة ووظائفها، إدارة الصراع بدلا من حسمه للإبقاء على حالة استنزاف مستدام، والتدخل عبر الوكلاء المحليين الذين يمنحون غطاء أيديولوجيا أو طائفيا لمشاريع تفكيك أوسع. وليس أقل دلالة من ذلك أن الاستهداف الجغرافي ليس عشوائيا، بل يركز بدقة على ممرات استراتيجية حيوية ومناطق موارد طبيعية، ونقاط التقاء جيوسياسية بالغة الحساسية، بما يشير إلى وعي استراتيجي عميق بجغرافيا القوة وديناميكيات النفوذ الإقليمي. لكن التعقيد الفعلي للواقع يفرض تجاوز القراءة الأحادية البسيطة. فحتى لو كان هناك محرك رئيسي واضح، فإن قوى إقليمية ودولية متعددة تستفيد من حالة الفوضى وتساهم بنشاط في إدامتها، كل لأهدافه الخاصة التي قد تتقاطع أو تختلف عن أهداف الآخرين. بعضها يسعى للهيمنة الإقليمية، وبعضها يريد ضمان أسواق السلاح، وبعضها يبحث عن نقاط نفوذ في صراعات أوسع، وبعضها يسعى لمنع صعود نماذج سياسية بديلة قد تهدد مصالحه، وأما بعضها فنهب الموارد والاستحواذ على المقدرات الطبيعية. كما أن العوامل الداخلية لا يمكن تجاهلها، فالبنى الهشة والانقسامات الطائفية والفشل التنموي المتراكم كانت موجودة قبل التدخلات الخارجية، مما يعني أن الأرضية كانت مهيأة محليا لاستقبال هذه التدخلات واستيعابها وتحويلها إلى واقع دائم. علاوة على ذلك فإن الأهداف الخاصة من كل ساحة قد تختلف عن الأخرى بحسب موقعها الاستراتيجي وطبيعة مواردها وأهميتها الجيوسياسية. ما يراد من ساحة معينة كالسيطرة على ممر بحري حيوي مثلا يختلف نوعيا عما يراد من ساحة أخرى، كمنع قيام نموذج سياسي بديل أو تأمين موارد استراتيجية أو تفكيك دولة قد تشكل نواة لتكتل إقليمي مستقبلي. هذا التنوع في الأهداف الجزئية لا ينفي وجود هدف استراتيجي أعم بل يعكس مرونة في التكتيك ضمن استراتيجية واحدة. ما تواجهه المنطقة إذاً هو شبكة مصالح متقاطعة بقيادة محورية للخراب وليس فاعلا واحدا بالمعنى المجرد البسيط. هناك بالتأكيد محور استراتيجي رئيسي له مصلحة جوهرية في منع أي تكامل إقليمي حقيقي أو صعود نماذج سياسية مستقلة قادرة على بناء دولة وطنية مستقرة. لكن هذا المحور لا يعمل بمفرده في فراغ بل ضمن شبكة مصالح متحالفة تضم قوى إقليمية ودولية متعددة تتقاطع مصالحها - سواء بشكل مؤقت أو بنيوي - مع مصالح هذا المحور في إدامة حالة من الفوضى المضبوطة التي يمكن إدارتها والاستفادة منها دون أن تخرج عن السيطرة. وعلى المستوى الأعمق هناك وكلاء محليون لهم أجنداتهم الخاصة وحساباتهم الذاتية ومشاريعهم السياسية أو الطائفية أو الاقتصادية، لكنهم يجدون في الدعم الخارجي - ماديا وعسكريا وإعلاميا - فرصة لتحقيق هذه المشاريع التي لم تكن ممكنة في ظل وجود الدولة الوطنية. فيدخلون في علاقة تبادلية معقدة مع الفاعلين الخارجيين، حيث يقدمون الشرعية المحلية والقدرة على الحشد والتجذر الاجتماعي بينما يحصلون في المقابل على الموارد والسلاح والغطاء السياسي. ما يجعل هذا المشهد أكثر تعقيدا هو أن النتيجة النهائية المنسجمة التي نراها ليست بالضرورة نتاج خطة مركزية صارمة يديرها فاعل واحد بدقة مطلقة وتحكم كامل، بقدر ما هي نتاج تقاطع طبيعي وعضوي لمصالح متعددة وآليات تدخل متشابهة. فآليات إدارة الأزمات وتغذية الصراعات وتفكيك الدول قد تكون متشابهة ليس فقط لأنها منسقة مركزيا في كل تفاصيلها بل أيضا لأنها تعكس منطقا جيوسياسيا واحدا يفهمه ويطبقه فاعلون متعددون كل من موقعه ووفق إمكانياته. هذا المنطق هو منع ظهور كتلة إقليمية متماسكة قادرة على الفعل المستقل والمؤثر في النظام الدولي وضمان بقاء المنطقة في حالة من التجزئة والاستنزاف تمنعها من تحويل مواردها وموقعها الاستراتيجي إلى قوة فاعلة. يكتمل هذا المشهد مع اختلال في البنية الإقليمية الأوسع، حيث يغيب المشروع الجامع القادر على إعادة تعريف المصالح المشتركة وصياغة توازن ذاتي مستقر. المشكلة لا تكمن في انعدام الموارد أو القدرات المحلية إنما في غياب الإرادة المنظمة القادرة على تحويل الجغرافيا المشتركة إلى مصلحة مشتركة والتاريخ المتداخل إلى رؤية سياسية جامعة. في هذا الفراغ تحديدا يصبح الإقليم بلا مناعة استراتيجية، لا لأنه ضعيف بالضرورة بل لأنه غير منظم حول فكرة جامعة تضبط اتجاهه. هنا يفتح المجال أمام منطق الاستبدال الوظيفي، حيث تدار ملفات الأمن والطاقة والممرات والنزاعات والهويات بالوكالة، لا بوصفها عناصر سيادة بل أوراق ضغط وتفاوض ضمن صراعات أوسع. التدخل في هذا السياق لا يأتي دائما في صورة قوة على الأرض تنتمي لدولة وتحمل علمها بل عبر تغذية الانقسامات القائمة وتحويلها إلى نقاط ضغط دائمة بما يجعل استمرار التوتر أكثر فائدة من إنهائه. وبهذا تتحول الحروب الممتدة والانقسامات داخل الكيان الواحد والنزاعات المتكررة إلى أدوات إدارة إقليمية لا إخفاقات طارئة. الفوضى ذاتها تصبح قابلة للتوظيف والأزمة تتحول إلى أداة ضبط لا مشكلة تحتاج إلى حل. أمام هذا الواقع لا يمكن تصور خروج حقيقي من الحلقة المغلقة من دون إعادة إنتاج مشروع جامع لا يقوم على الأيديولوجيا أو التحالفات الشكلية، بل على إطار حضاري – استراتيجي يعيد تعريف المصلحة والأمن وروح السياسة في آن واحد. مشروع يحول الجغرافيا من عبء صراعي إلى مورد قوة، والدولة من ساحة تنازع إلى وحدة ضبط، والإقليم من مسرح صراعات إلى فاعل توازن. جوهر هذا المشروع أن تفهم السيادة بوصفها قدرة على إنتاج قرار معقول داخل نظام دولي متشابك لا بوصفها انعزالا أو صداما دائما. سيادة تقاس بالاستقرار وإدارة التنوع والتحكم في الإيقاع السياسي والأمني، وعلى هذا الأساس يصبح بناء الدولة مكمن الاعتلال وتحييد الصراعات الكبرى وإعادة تعريف الأمن بمعناه الشامل وتحويل الترابط الاقتصادي إلى أداة استقرار، وصياغة سردية عقلانية جامعة من خلال مسارات مترابطة لا خيارات منفصلة. إنما لمواجهة هذا الاعتلال البنيوي العميق وفي ظل غياب المشروع الجامع الذي تحدثت عنه، تأتي التحولات الجيوسياسية الراهنة لتعيد صياغة خارطة الفرص، ففي الوقت الذي تعيد فيه الاستراتيجية الأمريكية للأمن القومي الجديدة التي صدرت مؤخرا تعريف دور واشنطن بوصفه إدارة للمخاطر وتقليصا للانخراط المباشر في النزاعات الممتدة، تبرز السعودية بوصفها القوة الإقليمية الأكثر قدرة على تحويل هذا الفراغ المحسوب إلى فرصة استقرار منضبط. فحين يطلب ولي العهد من القيادة الأمريكية وضع أزمات إقليمية معقدة «كالصراع في السودان» ضمن أولويات الحل لا الإهمال، فإن ذلك لا يعبر عن نقل العبء بكليته إلى واشنطن بل عن إعادة صياغة العلاقة على أساس شراكة استراتيجية. إذ توفر الولايات المتحدة الغطاء الدولي وتحصين الحل، بينما تتولى السعودية هندسة المسار السياسي الإقليمي بما يقلل كلفة الفوضى ويمنع تحول الساحات الهشة إلى بؤر استنزاف مفتوح أو منصات اختراق استراتيجي. وبهذا المعنى: تتحول الرياض إلى فاعل توازن يسد ثغرات إدارة الفوضى بمنطق بناء الدولة، ويعيد ضبط الإيقاع الإقليمي في لحظة غياب المشروع الجامع بما ينسجم مع الاستراتيجية الأمريكية الجديدة التي تبحث عن شركاء استراتيجيين قادرين على إنتاج الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط لا وكلاء لإدارة الأزمات. في المحصلة: لا تواجه هذه المساحات الإقليمية فشلا سياسيا بالمعنى الضيق، بل أزمة رؤية ووظيفة في آن واحد: كيانات فقدت دورها الوظيفي وصراعات فقدت غايتها وخطاب فقد صدقيته. ومن دون معالجة هذا الاعتلال البنيوي في العمق ستبقى محاولات الإصلاح مجرد تبديل للواجهات، بينما تستمر الحلقة نفسها في إنتاج الأزمة بأشكال جديدة. ما يحتاجه الإقليم ليس مزيدا من إدارة الأزمات بل إعادة تأسيس لفكرة الدولة ولمعنى الأمن ولوظيفة السياسة. تبنى على المصلحة الواقعية لا على الشعار الأيديولوجي. دون ذلك ستظل المنطقة تتفاعل مع الأحداث بدل أن تصنع اتجاهها وستبقى ساحة لصراعات الآخرين بدل أن تكون فاعلا مستقلا في النظام الدولي. TurkiGoblan@