تعلم إسرائيل أن الحرب على قطاع غزة دفعت قوى إقليمية ودولية عديدة للحديث عن السلام في المنطقة، وإعادة طرح الصيغة البراقة بشأن حل الدولتين، أي دولة إسرائيلية تجاورها أخرى فلسطينية لم يتم الاتفاق على شكلها وهيكلها وقوامها ونطاقها والكثير من الترتيبات اللازمة لها، فبادرت حكومة بنيامين نتنياهو بالعمل مبكرا على إجهاض أيّ صورة يمكن أن تكون عليها هذه الدولة، ولو كانت محدودة وتستكمل ما جرى بناؤه من خلال اتفاق أوسلو قبل نحو ثلاثة عقود. وعملت على جبهتي غزة والضفة الغربية بوتيرة متسارعة لتجفيف المنابع الرئيسية التي تسمح بإعلان هذه الدولة مستقبلا، مستفيدة من الأجواء التي وفّرتها لها الحرب، وصمتت بعض القوى الكبرى أو تقاعست وربما أيدت ما تقوم به قوات الاحتلال من تدمير في القطاع، وما يفعله المتطرفون تحت بصر الأجهزة الأمنية في الضفة. غيّرت إسرائيل الكثير من تكتيكاتها في التعامل مع القضية الفلسطينية، وأجرت تعديلات هيكلية في سياساتها القديمة، كي تربك السلطة الوطنية وتخلط أوراق الدول العربية المدافعة عن خيار الدولة الفلسطينية، وتقطع الطريق على تحويل الصوت الدولي المرتفع الداعم لها إلى ممارسات حقيقية، وتخلق أمرا واقعا معقدا لا يجعل هناك مجالا لنقل الحديث عن الدولة من مربع التصورات إلى الإجراءات. وكل التوجهات التي تبنتها تل أبيب والتصرفات التي قامت بها الحكومة الحالية حرصت على التخلص من تشويه صورة الدولة الفلسطينية المنتظرة والتعاطي مع الفكرة بحسبانها عبئا على المنطقة وتهديدا لوجود إسرائيل، بينما اعتبرتها قوى عدة الخيار الوحيد الذي يوفر الأمن لها، ويمنع تكرار عملية طوفان الأقصى، والتي تعاملت إسرائيل مع تداعياتها بشكل يحمل المزيد من العنف وتكسير أذرع وأرجل ورؤوس من يمكن لهم التفكير في إعادة إنتاج طوفان آخر، فلسطيني أو لبناني. ◙ لأن إسرائيل لن ترفض نداءات السلام عملت على وضع العصي بين العجلات السياسية وسعت إلى بعثرة الواقع الذي يستند إليه خيار الدولة الفلسطينية جاء قلق إسرائيل من تصميم السعودية على ربط تطبيعها معها بإيجاد حل مناسب للقضية الفلسطينية، يعتمد على السعي للعمل على مشروع الدولة استنادا إلى قرارات الشرعية الدولية، ما جعل تل أبيب في مأزق، فالتطبيع مع الرياض هدف حيوي تريد الشروع فيه لأنه يفتح لها أبوابا جديدة، والدولة الفلسطينية مشروع مميت لطموحات إسرائيل، ويجهض كل الآمال التي يراهن نتنياهو على تحقيقها، والتي دفعته إلى إطالة أمد الحرب على غزة لأكثر من عام، راوغ خلالها مع كل المبادرات التي طرحت لوقفها ونجح في القفز عليها، وإدارة الحرب ضد حزب الله اللبناني بالشكل الذي يمكنه من تقويض القوى التي تتمسك باستمرار المقاومة. ولأن إسرائيل لن ترفض مباشرة نداءات السلام أو التسوية العادلة عملت على وضع العصي بين العجلات السياسية، وسعت إلى بعثرة الواقع الذي يستند إليه خيار الدولة الفلسطينية، فتوسعت في مستوطنات الضفة، وأضفت شرعية على العديد منها، ومكنت المتطرفين من استعمال أقصى درجات العنف ضد السكان، بالتوازي مع عنف قوات الاحتلال في غزة، والتلويح بتهجير الفلسطينيين إلى مصر والأردن، بحيث يجد من يتحدثون عن مشروع إنشاء دولة فلسطينية أنفسهم أمام واقع سوريالي، يتشكل من كانتونات متفرقة وصغيرة، لا روابط بينها أو سلطة تحكمها، وتخضع لإرادة المتطرفين الذين يزداد تغولهم في إسرائيل، والمرجح أن يتصاعد تحكمهم في مفاصلها الفترة المقبلة، في ظل إجراءات مختلفة اتخذها نتنياهو تمنحهم قوة مركبة. حيال الواقع المرير لم يتحرك المجتمع الدولي، ولم تتكاتف الدول العربية للتعامل مع السيناريو المؤلم، ومن رحم الترتيبات الإسرائيلية القاتمة خرجت فكرة السعودية الخاصة بتحالف دولي يدعم حل الدولتين، لكن حتى الآن تنقصها تحركات عملية، فالشعارات التي حملها لقاء الرياض، وما خرجت به القمة العربية – الإسلامية في الرياض أيضا، لا يكفي لصد ما تقوم به إسرائيل من عنف، وما تضعه من عراقيل لمنع إقامة أيّ دولة فلسطينية مهما كان حجمها وشكلها. فالمضامين التي ظهرت إثر مؤتمر التحالف والقمة لا تزال تتوقف عند العناوين الجذابة، ومطلوب من السعودية التمسك بموقفها في ربط التطبيع بحل القضية الفلسطينية، قبل أن تجد نفسها أمام متاهة إسرائيلية، ومعزوفة أميركية يقودها الرئيس الجمهوري دونالد ترامب، الذي يعتبر الرياض ركيزة مهمة لبلاده في الشرق الأوسط، ولها دور مهم لتعويم إسرائيل الجديد في المنطقة، وربطته بقيادتها علاقات جيدة خلال فترة رئاسته السابقة، تشي بإمكانية تطويرها في الفترة الثانية. قد يكون نتنياهو قرأ كل ذلك، واستبقه بتبني سياسات تحقق أغراضه، وتسلح بأفكار وضعها على الأرض، وعندما يسخن حديث التسوية يجد حججا تدعمه وأسانيد توفر له ذرائع للهروب من حصار السلام وحل الدولتين، والذي يمكن أن يتزايد عقب وقف إطلاق النار في لبنان وغزة، فالوصول إلى هذه النقطة سيكون مصحوبا بتقديرات متفاوتة حول اليوم التالي لإنهاء الحرب. ◙ مطلوب من السعودية التمسك بموقفها في ربط التطبيع بحل القضية الفلسطينية، قبل أن تجد نفسها أمام متاهة إسرائيلية ومعزوفة أميركية وإذا كانت الجبهة اللبنانية ينصب يومها التالي على إعادة ترتيب الأوضاع السياسية الداخلية وإنهاء ظاهرة هيمنة إيران وحزب الله على القرارين السياسي والعسكري مع ضمانات للهدوء في الجنوب، فإن وقف الحرب في القطاع على علاقة وثيقة بتنظيم العلاقة بين الفلسطينيين وإسرائيل، وسيكون مطروحا بينها فكرة التسوية الدائمة وسط إهمال مشروع الدولة حاليا أو في المستقبل. ولذلك جزء معتبر من إطالة أمد الحرب في غزة محاولة محوها من الخريطة الجغرافية ومن ثم السياسية والأمنية، وما قامت به إسرائيل من هدم لبنيتها التحتية، وما تقوم به من تقطيع لأوصال القطاع يتجاوز حدود التخلص من حماس، ويصل إلى مستوى منع الحياة لسنوات طويلة، ويسبق الحديث عن إعادة الإعمار الدولة، ويحتاج إلى عدة عقود كي تعود غزة إلى ما كانت عليه قبل السابع من أكتوبر من العام الماضي. وقد استنفدت إسرائيل جزءا كبيرا من أهدافها في ملف الانقسام الفلسطيني، والسجال بين فريقي السلام والمقاومة، وربما على وشك أن تنتهي هذه الثنائية، فتعمل على إيجاد ثنائيات وجدليات أخرى تتعلق بالإدارة المدنية لغزة ومن يشرف على الإعمار وإنكار دور السلطة الفلسطينية، وبالطبع انتهاء دور حماس، وكلها إشكاليات يستغرق حل شفراتها وقتا، يكون قطار الدولة قد ولّى، وهو التحدي الذي على الدول العربية والمجتمع الدولي المعني بإنهاء الصراع في المنطقة الانتباه له، فاللعبة التي تمارسها إسرائيل ترمي إلى تصفية القضية الفلسطينية، وليس فقط القضاء على مشروع الدولة. بالنظر إلى التعيينات التي أعلن عنها الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب في إدارته الجديدة، يستوثق المراقب أن هناك دعما ستحصل عليه إسرائيل يمكنها من تنفيذ مخططها لتفشيل حل الدولتين، فغالبية الطاقم الذي سوف يصاحبه إلى البيت الأبيض من مؤيدي تصورات نتنياهو وغلاة المتطرفين في إسرائيل، ما يعني أن كسر هذه الحلقة وجعل مشروع الدولة قابلا للمناقشة ثم الحياة مسألة غاية في الصعوبة، وفي حاجة إلى خطة فلسطينية وعربية محكمة لإحداث خلخلة في الإستراتيجية التي تتبناها إسرائيل.