الباحث محمد بكاي ويؤكد أن سياسات ما بعد الحداثة قد فتحت آفاقا جديدة للتفكير في طبقات مختلفة وغير مستقرة، ودعت إلى الخلخلة والتفكك واللااستقرار.العرب عواد علي [نُشر في 2017/04/15، العدد: 10603، ص(15)]مسارات متفرقة يرى الباحث الجزائري محمد بكاي أن ما بعد الحداثة تتميز بشكل جذري عن سابقاتها من التيارات التقليدية. مساراتها متفرقة ومفاهيمها صعبة وشبكتها الاصطلاحية مؤرّقة، سمتها التمرّد على كل ما هو معياري وعادي أو خاضع للمؤسّسة، ونظرا لكونها قد ظهرت في وقت متأخر، فإنها غير مستقرة على مفهوم ثابت، أو لا تتحدد في تصوّر معيّن، هي مجال جديد ينفتح بكل طاقاته على اللامحدود. وحتى المعجم الاصطلاحي لتلك النظريات يحمل الكثير من اللبس والتشظي والتفرد الدلالي والمعجمي، ولذلك استقى عنوان كتابه “أرخبيلات ما بعد الحداثة”، الصادر مؤخرا عن دار الرافدين، من هذا الحقل المعجمي الخاص، فالدال حمّال للشتات والتشظي والتناثر، حيث أن الأرخبيل ينتمي إلى الحقل الجغرافي. وهنا يعترف بدينه وإعجابه بالصيغ الجغرافية التي جاء بها أعلام النظرية الفرنسية ما بعد الحداثية مثل: الطبقات والتفكيك والحفر والأركيولوجيا وغيرها مما وظّفه جيل دولوز أو ميشال فوكو أو جاك دريدا، هذا من جانب، ومن جانب آخر جاء اختياره لهذه الصيغة، دون غيرها، احتماء بالأرخبيلات أو الجزر المتناثرة ضدّ كل محاولة للتأصيل أو التحديد أو رسم الحدود وتثبيتها، وهذا كناية عن الغموض واللاانتماء إلى أي طبقة. واختيار الأرخبيل بصيغة الجمع محاولة منه لإسقاط كل محاولة للسكونية أو التصلب الأحادي للحقيقة والمعنى، فباستحداث التعددية يكون قد أتاح الفرصة لرؤى ما بعد حداثية بتسليط الضوء على معضلات الذات وأزماتها الأخلاقية والنفسية، بعيدا عن العقلانية الصارمة والسرديات الميتافيزيقية الكبرى المعهودة. ويؤكد بكاي أن سياسات ما بعد الحداثة قد فتحت آفاقا جديدة للتفكير في طبقات مختلفة وغير مستقرة، ودعت إلى الخلخلة والتفكك أو الارتجاج واللااستقرار، متسببة بضربات موجعة للنزعات العلمية والتوجهات الكليانية والشمولية. من هو الإنسان؟ وما الإنساني؟ وما الذات الإنسانية؟ لعلها تمثل أكثر التساؤلات إلحاحا على مثقفي عصر ما بعد الحداثة، وتغطي حيزا هائلا من طروحاتهم المتعلقة بحقوق الأفراد وأخلاقيات التعامل مع المتنوع إنسانيا. والتماس الاختلاف عن سابقاتها الحداثية أو البنيوية أو الوجودية، هو نوع من التحقيق في طبيعة الإنسان. ويصف بكاي، في ثنايا الكتاب، التحولات النموذجية المختلفة التي أصابت دوائر الثقافة والسياسة والفلسفة واللغة والهوية وحقول التواصل والتفاعل والسوسيولوجيا. والمعروف أن الفكر ما بعد الحداثي حمل عبر هذه التخصصات هدفا متماسكا نسبيا يتمثل في أشكلة ونقد التوجهات الفلسفية، ووضعها موضع تساءل وتجريح وانتقاد، ومنه يتسم هذا الفكر بالشك والاختلاف والمقاومة. وهو ما لا يمكن أن ننتظر منه أي نزعة علمية أو موضوعية أو غاية نسقية وانتظامية، بقدر ما نُفاجأ بلا استقراريته، ووعورة جغرافيته، وتعددياته، عبر الثقافة وإنتاجها. وأثناء انتقال المؤلف، في فصول الكتاب، بين مفكرين وفلاسفة بارزين أمثال: دريدا وإريغاراي وأركون وكريستيفا وليفناس، نشهد نقدا لتأسيس المعنى المطلق أو الحقيقة المطلقة، المشيدة مركزيا، الثابتة والمتأصلة غير القابلة للتغيير والتحويل والإزاحة، والبديل الذي يقترحه أصحاب هذا المذهب هو أن الحقيقة ليست أصلية وليست واحدة وحيدة، بقدر ما هي ديناميكية، متعددة ولانهائية، مؤجلة وغير قابلة للوصول الحتمي. كما يتطرق المؤلف إلى ابتكار الآخر والغيرية، حيث منح هذه الأخيرة نصيبا وافرا لمعالجة إشكالاتها السياسية وقضاياها الأخلاقية والجندرية، وفحص أساليبها في الفكر والفن والكتابة، بإعادة قضية الغير إلى المشهد الفكري بشكل حاد وجاد وملح، فأضحى الآخر الغريب لازمة فكرية في عصر الاختلاف، الذي لا يبحث أو يؤسس للواحد بقدر ما يحاول أن يتعاطى مع الواحد المزدوج، وهو ولع وتعلق بالآخر في غيريته، في تشكيلة المستحيل، هي نظرات ما بعد حداثية ثائرة أكثر من أي وقت مضى، وبشكل هستيري، على مركزيات الذات وأساطير الأنا، لتحقق نوعا من المقاومة لهذه الثقافة الأحادية وتشتغل كعقل مضاد لهذه الهيمنة والمركزية. ومن جوانب متعددة، بين تفكيك الثوابت، إلى معالجة التداولي ومناقشة البعد التواصلي، مرورا بِرِهان الإيتيقي (الأخلاقي) وقلق النسوي وسطوة السياسي وسرديات التاريخي، يمضي بكاي في نصيّات مكتظة بصعوبات حادة وقضايا متناقضة غير قابلة للحسم، لترجمة خوالج الذات وتمزقاتها، أو انعكاس وقائعها وتجلياتها، وتصوير وقع النزعة النيتشوية على تيار ما بعد الحداثة، التي ترسم فكرا متزعزعا وجغرافيات متناثرة، كأرخبيلات تستعصي على التحديد والتمثيل، مقتربة من التيه والاختفاء.