كنت قد أشرت في مقال سابق (الآثار القديمة، د. عبدالعزيز بن سعود الغزي عن تاريخ الآثار واستكمالاً لهذا السجل: استمر وجود الإنسان في المملكة العربية السعودية خلال العصر الحجري القديم، وازدادت كثافته خلال الفترة الآشولية متمثلة بعدد من المواقع المنتشرة في وادي فاطمة في منطقة مكة المكرمة؛ وفي وادي صفاقة وصلبوخ وحنيفة والدواسر والسليل في منطقة الرياض. استمر تواصل الإنسان مع أرض المملكة العربية السعودية خلال العصور الحجرية اللاحقة، فقد أثبتت التحاليل العلمية وجود الإنسان خلال العصر الحجري القديم الأعلى في الرفايع في محافظة الخرج، حيث أرّخ كربون 14 لأربع عينات التقطت من أربعة مواقع أعطت أربعة تواريخ يعود أقدمها إلى ثمانية عشر ألف عام قبل الوقت الحاضر، وآخرها إلى اثني عشر ألف عام قبل الوقت الحاضر، كما عثر حديثاً في الرفايع ذاتها على أدوات حجرية أرّخت بشكل أولي بخمسين ألف عام قبل الوقت الحاضر. لم يترك الإنسان أرض المملكة، بل استمر في وجوده فيها، إلا أن هذا الوجود قد ازدهر خلال العصر الحجري الحديث ما قبل الفخار، فقد عثر في منطقة تبوك على موقع يُعرف باسم «العيينة» يحتوي على منشآت حجرية وجدت فيها وحولها أدوات حجرية أرّخت بالألف التاسع قبل الوقت الحاضر. وفي منطقة الرياض عثر على موقع «الثمامة» يبعد إلى الشمال الشرقي عن مدينة الرياض بتسعين كيلومترًا، وفيه وجدت أدوات حجرية متقنة الصنع وجيدة المادة، إضافة إلى المنشآت الحجرية التي وظف بعضها كمدافن، وبعضها لأغراض أخرى وأرّخ الموقع بثمانية آلاف عام قبل الوقت الحاضر. ويُعد موقع «المقر» في محافظة تثليث أحدث موقع يُعثر عليه، وأرّخ بكربون 14 بالألف التاسع قبل الوقت الحاضر. ووجد أيضاً عدد من المواقع في محافظة السليل على ضفاف وادي الغيران الذي يمثّل امتدادًا لوادي الغر ووادي الغر يمثّل امتدادًا لوادي الدواسر. يواصل وادي الغيران مجراه باتجاه الشمال الشرقي لينتهي في سهل حدوده الشرقية رمال الرميلة سجل أربعة وأربعين موقعاً للعصور الحجرية في وادي الغيران. تقع جميع تلك المواقع بين عروق الرمال أو على ضفاف البحيرات القديمة أو بين رواسبها وهي عبارة عن معسكرات صيد تعود إلى العصر الحجري الحديث. وفي وادي الدواسر وجد موقعان على حافة بحيرتين جافتين في الوقت الحاضر أرّخا بالألف الثامن قل ميلاد المسيح عليه السلام. ووفقاً لدراسات قديمة، يوجد عدد من مواقع العصر الحجري الحديث ما قبل الفخار في جنوب صحراء الربع الخالي، من أهمها موقع جلدة والمتبطحات، والمندفن، وشرورة، وجميعها أرّخت بالألف السادس قبل ميلاد المسيح عليه السلام. ونتيجة لجهود الأمريكيتين جريس بوكهلدر وميرتي جولدنج عرفت مواقع لحضارة تعرف في شرقي شبه الجزيرة العربية وجنوب بلاد الرافدين باسم «حضارة العبيد» - بضم العين - تم هذا الاكتشاف خلال عمل المرأتين في شركة أرامكو السعودية. ومن بين الكسر الفخارية الملتقطة تظهر عليها زخارف بالألوان الأسود والبني والبني المحمر. فاغتنمتا فرصة وجود جيفري بيبي في شركة أرامكو ليلقي محاضرة، وبعد فحصها من جيفري أفاد بأن الكسر من أنماط فخار العبيد الذي سبق أن رآه في مواقع في بلاد الرافدين، واقترح أن يشخص على أنه فخار عبيدي يؤرّخ بما بين الألف الخامس ومنتصف الألف الرابع قبل الميلاد. فظهرت مقالات لميرني جولدنج وجريس بوكهلدر وجيفري بيبي. وشجعت تلك المقالات عبدالله حسن مصري ليجري مسحاً منظماً لمواقع العبيد لدرجة الدكتوراه في جامعة شيكاغو. وتمكّن من إجراء حفريات أثرية في أربعة مواقع هي: الدوسرية، وعين قناص، وأبو خميس وتل تاروت. ونشرها عام 1974م، ثم مناقشات علمية حول فترة العبيد في شرقي المملكة العربية السعودية شارك فيها ديفد أوتس، وجون أوتس، وعبدالله حسن مصري. وخلال العصر الحجري الحديث الفخاري عُمرت المملكة العربية السعودية وبخاصة أجزاؤها الشرقية وسواحلها، إذ عثر على ما يربو على أربعين موقعاً أرّخت بما بين نهاية الألف السادس قبل الميلاد ونهاية الألف الرابع قبل الميلاد، وأطلق عليها مواقع فترة العُبيد نسبة إلى تل يُعرف بهذا الاسم. وشخصت بأنها من مواقع العصر الحجري الحديث الفخاري. ومن أهم تلك المواقع موقع الدوسري وأبو خمسين وعين قناص وتل تاروت ووفقًا للأعمال الميدانية وتحاليل كربون 14 فإن تاريخها يعود إلى نهاية الألف السادس قبل الميلاد؛ أي العصر الحجري الحديث الفخاري. ومع بداية ظهور العصور الحجرية المعدنية، أي نهاية الألف الخامس قبل الميلاد، بدأت تظهر حضارة أكثر انتشاراً، فظهرت تجمعات في مواضع مختلفة من شبه الجزيرة العربية، أشهرها حضارة هيلي؛ نسبة إلى منطقة هيلي في الإمارات العربية. وأهمها الأواني الفخارية التي تظهر عليها زخارف بالألوان والأشكل الهندسية التي تحاكي ما يظهر على فخاريات موقع بمبور من الطبقة الخامسة، وكذلك موقع تبه يحيى المؤرّخ بنهاية الألف الرابع قبل الميلاد؛ أي من 3400 قبل الميلاد وإلى 2750 قبل الميلاد. وهذه الحضارة هي تطور لحضارتين عرفت في الإمارات العربية وسلطنة عمان قبلها؛ هما حضارتا بات وحفيت. وفي نهاية حضارة هيلي التي اقتصر انتشارها المكاني على شرقي الجزيرة العربية ظهرت حضارة أم النار في الإمارات العربية المتحدة ومن حيث الزمن، فتمتد من منتصف الألف الثالث قبل الميلاد حتى نهاية النصف الأول من ذلك الألف، أي من عام 2750 قبل الميلاد إلى عام 2400 قبل الميلاد. (المصدر: الغزي، عبدالعزيز، الآثار القديمة في المملكة، وزارة الثقافة، 2023 ، ص: 13- 16).