قبل ثورة يوليو (تموز) 1952 لم يكن للنكتة السياسية وجود. كانت تصب اهتمامها على المساطيل والحشاشين والدجالين، خاصة هؤلاء الذين يتخذون من الدين مطية وشعارا ينصبون به على خلق الله. أضف إلى ذلك العيوب الأخلاقية فقط. النكتة الحقيقية لا تسخر من إنسان لأنه يعاني متاعب في الرؤية أو السمع مثلا. وكل النكات التي تدور حول أمراض البشر ليست إلا عدوانا متنكرا في هيئة نكتة. والمقصود بالنكتة هو ذلك العمل الفني المتكامل دراميا، صغير المساحة والحجم، قوي التأثير، والقادر في الوقت نفسه على الانتقال من مكان إلى مكان بسرعة مذهلة. لكن لماذا النكتة أصلا؟.. لماذا اهتم اللاوعي الجمعي بإنتاجها ليضيفها إلى منتجات العقل البشري والتفكير الإنساني؟.. الإجابة كما أراها هي: الحقيقة ليست واضحة لكل الناس معظم الوقت، هي مدفونة تحت ركام كبير من الزيف والمفاهيم الخاطئة والمغلوطة والأفكار القديمة غير المجدية التي تعشش في عقول البشر. والوصول إليها يتطلب قوة النكتة المنطوقة والمرسومة (الكاريكاتير)، وبهذه القوة تستطيع أن تصل إلى الحقيقة وتخرجها من تحت الركام لتضعها أمام الناس في وضح النهار. لنستمع معا لنكتة من أربعينات القرن الماضي، كان الناس في ذلك الوقت يقومون بتدخين الحشيش في أوكار صغيرة تسمى بـ«الغرزة»، وكانت عادة توجد في أماكن بعيدة عن المناطق المزدحمة، ومن أفضل الأماكن بالطبع منطقة المقابر، ومن الاحتياطات الأمنية كان هناك مجموعة من الصبية (ناضورجية) يتخذون أماكن على بعد عدة مئات من الأمتار يراقبون منها الداخل والخارج لتحذير أهل «الغرزة» في حالة هجوم المباحث. وحدث بالفعل أن هجمت المباحث على «الغرزة» التي نحن بصددها، غير أن «الغرزجي» كان قد أسرع بإلقاء الحشيش والجوزة (النارجيلة) في مقبرة مفتوحة، وفي ثوان كان يقف إماما أمام الزبائن الذين تحولوا إلى مصلين. وقف ضابط المباحث على باب «الغرزة» حائرا غير أنه تمسك بهدوئه إلى أن انتهوا من صلاتهم وسأل الرجل: «كنتم بتعملوا إيه يا معلم..؟».. فأجاب المعلم: «زي ما انت شايف حضرتك.. كنا بنصلي». فسأله الضابط: «والنار دي ليه..؟».. فأجاب: «النار دي للي ما بيصليش»! طبعا الضابط كان يشير إلى الفحم المشتعل في الإناء الفخاري. ومصدر الضحك هنا هو الخلط بين نار الفحم ونار جهنم. واللاوعي الجمعي من خلال هذه النكتة يوضح الصلة بين الجريمة والدجل الذي يتستر بالطقس الديني. في اللحظة التي انكشف فيها أمر الغرزجي الحشاش، لجأ على الفور للدجل. إلى الأبد سيظل الدجالون يمارسون نشاطهم طبقا لقاعدة حياتية قديمة تقول «رزق الهبل ع المجانين»، أما الأمر غير المسموح به فهو السماح للدجل للترويج لبضاعته من خلال أجهزة الإعلام. في فضائية مصرية يذاع إعلان عن سيدة تفسر لك أحلامك، ولتأكيد قدرة السيدة يقول الإعلان إن تفسيرها يستند إلى صحيح الكتاب والسنة. الجملة الأخيرة أدخلت الإعلان في دائرة الدجل الصريح.. إنها حالة من حالات القبول الإعلامي الخطر بالدجل. ما يدهشني هو أنه لا أحد من مسؤولي المحطة تنبه لخطورة كلمات من هذا النوع. ali.salemplaywright@yahoo.com