لم يُدرك جلجامش أنه قد توصلَ لعشبةِ الخُلود حينَ كَتبهُ التاريخُ قصيدةً أُولى، وإبداعاً خالداً، خلودَ روحِهِ في الكون، هناك.. حيث أشرقت شمسُ الحضارات الإنسانية بأرضِ الرافدين، أمِّ الشعر، التي ما ولَدَتْ شاعراً عظيماً، إلا بَشَّرَتْ بمولدِ آخر، والتي تروي لنا أبوابُ مدائِنها قصصَ من عبرت بها أعمارُهم، وأحلامُهُم، وتُغَلّقُ صُدُورها على أسرارِ مَعَابِدِهَا وَسَحَرتِها وَحَدائِقِهَا المُعلقة. هناك، حيث تحتضنُ أمُّ الربيعينِ دجلةَ بينَ ضُلوعِهَا ترنيمةً مِن وفاءٍ واخضرار، تُهدي كل من مَخرتهَا زوارقُ أيامهم قصائدَ من حبٍ وجمال جاء الشاعر العراقي الموصلي عمر عناز إلى الكونِ قابضاً في كفهِ على حروفٍ من نورٍ، انبثقَ سَناهَا ليغمر الآفاقَ معلناً ولادة شاعرٍ أغوى القصيدةَ من أولِ غَمزةِ حرفٍ، فجاءته طوع أفراحه وأشجانه.. التقته اليمامة في حوار ثقافي حول تجربته الشعرية عقبَ فوزه أخيراً بجائزة ديوانِ العرب التي نظمتها مؤسسة جائزة عبدالعزيز البابطين بالتعاون مع إذاعة صوت العرب، والتي تُعد إنجازاً جديداً يضاف إلى مسيرة شعرية مُتوجة بأكثر من ستِة دواوين شعرية، آخرها ديوانه: أحمرُ جداً الصادر عن هيئة التراث والثقافة بأبو ظبي، وعدة جوائز كان آخرها المركز الأول بجائزة دبي الثقافية 2009. . حدثنا عن وهجِ البدايات؟ - أتخيل أن تشكّل الشاعر في بداياته يشبه إلى حد ما تشكّل الجنين في بطن أمه في تلك المرحلة الغيبية من حياته، التي لا يعلم عنها شيئاً، هي مرحلة أجد أنه من غير المنصف أن نحصرها في الفترة التي كنا نتعلم فيها أبجديات القصيدة ومداخل البيت الشعري ومخارجه، ولعل في أشد حالات الذاكرة سطوعاً يمكن لي أن أصفها بما تبقّى في غرف الروح من أطياف تشبه أطياف ذاكرتي تلميذاً في روضة النبوغ للأطفال، من هذا المنطلق أستطيع أن أجيب بثقة تامة أني لا أعلم عن بداياتي الشعرية أكثر من أن قدراً ما قادني إلى دواة غمست فيها أصابعي فتلونت بقزح تشكّل على الورق قوارب وأنهاراً وعصافير.. حساسية الانتماءات . يقول إليوت: «إن الشعر ليس تعبيراً عن شعور ولكنه هروب منه»، ويقول ألبرت آينشتاين:»إن الشعر هو اللامعنى العبقري بين الهروب، واللامعنى»، أين موضع عمر عناز الشاعر العربي في واقع يحتاج منه الانخراط؟ - وهل أكثر من هذا الانخراط الذي يعيشه الشاعر العربي في مجتمعه؟ الشاعر العربي عاش ويعيش كل مصائب هذه الأمة منذ حرب البسوس حتى آخر إطلاقة مجنونة، ومشكلة من يعتقد أن الشاعر منفصم عن واقعه أنه لا يفهم أن الشعر فن إشاري ليس بالضرورة أن يكون قائله هو المتحدث الرسمي عن كل ما جرى وسيجري. ولا أخفيك أن الحساسية التي يتمتع بها مجتمعنا في انتماءاته وانحيازاته السياسية والطائفية والعرقية جعلته إنساناً مسكوناً بهاجس تأويل كل شيء ضده، ما جعلني أفضل الإقامة في مساحات لا يوجد فيها مايُختلف عليه. السياسة والطائفية والشعر . في ظل حرب ما زال العراق يئن تحت رحاها مجددة أحزانه كل انكسار، هل يستطيع الخطاب الشعري العراقي –برأيك- الانعتاق من السياسة والطائفية؟ - أما من حيث المنحى السياسي فبتقديري لا يمكن أن يتخلص الشاعر العراقي وربما العربي عموماً من الظلال التي تلقي بها السياسة على نصوصه، لأن إنساناً تحاصره الفضائيات والصحف والمنابر بكل هذا القدر المجنون من الحديث في السياسة جدير بأن يفوح حديثه ببهار الموضوع السياسي شاء أم أبى، أما طائفياً فالشاعر كائن جمالي لا أثق بانحيازه الطائفي مهما ادّعى، لأني على ثقة أنه أرقّ من أن يتبنّى ثقافة لا تفضي إلا إلى واقع مشوّه. بدليل أن أكثر الشعراء انحيازاً للطائفية على استعداد تام أن يتنازل أو يتناسى على الأقل كل قناعته حين تبتسم له أنثى من غير طائفته. ونحن قلَّما عرفنا في موروثنا الشعري شعراء تناطحوا من أجل الطائفة، غالباً يختلفون من أجل امرأة، أو مال، أو أشياء تافهة لا تستحق الذكر حتى. الوطن.. والمراوحات . القارئ لقصائدك يشعر أنه تتجاذبها ثلاث قوى شاعرية وجودية: الحبيبة، اللغة، والوطن.. من منها تشعر أنها تختزل الآخرين؟ ومتى؟ - الوطن اختزل أعمارنا وأحلامنا وأمانينا، وهو قبل ذلك مذكرٌ لا أميل إلى التصالح معه في مقارنةٍ تكون أطرافها مؤنثة هههه، ثم إن اللغة ماكرة ومخادعة إذ عليها يقوم التأويل الذي هو أُسُّ بلائنا، لذلك سأقول إن الأنثى هي الجديرة بأن تختزلني شاعراً وإنساناً. الأنثى هي القارة التي لم نُحسن اكتشافها حتى الآن، الأنثى هي التي تختزلنا جميعاً اللغة والوطن وأنا وأنت وزقورة أور والجنائن المعلقة. . مراوحاتك بين الطفولة الكهلة، والكهولة الطفلة في قصائدك، تثير فضول القراء، ما سر هذه العلاقة الجدلية بينهما؟ - التشبث بالطفولة وعدم مغادرة أسوارها رهان صعب جداً، وأعتقد أني ربحت هذا الرهان إلى حد كبير رغم خسراني للكثير مما يتصارع عليه الكبار، نعم هذه الطفولة ظلت تطلُّ باسمة حيناً ودامعة في أحيان أخرى تبعاً لتقلبات الواقع الذي تعيشه، لذا فجدليتها مبررة وواضحة الأسباب. العمود الشعري والإيقاع . قالب العمود هو السائد لديك، مع كثافة الاشتغال على المعنى والمضمون، ما سر تمسكك بقالب العمود، وهل تؤيد من يقول: إنه يحد من حرية الشاعر؟ - كتبت الشعر بأشكاله المختلفة لكني انحيازي للعمود الشعري كان هو الغالب، تفسير ذلك لدي أني متلبس بالإيقاع «الموسيقى» حدَّ أنني لا أستطيع أن أبلغ نشوتي الفنية دون أن أستمع إلى أجراس الحروف ترنُّ داخلي. ثم إن علاقتنا بالأشياء الجميلة علاقة عمودية غالباً، علاقتنا بالسماء عمودية، بالفتاة الجميلة التي تستدعي النظر إليها من أعلى رأسها حتى أدنى قدميها، بالكثير من الأشياء التي يندحر فيها الأفقي أو تكون جماليته المتحققة محدودة جداً. . أين عمر عناز من المحكية العراقية؟ - المحكية العراقية وأظنك تعنين الشعر المحكي تحديداً، حكاية لا يمكنني الإحاطة بها لاتساع المشهد وعمقه ومايضم من أساطين أبدو تلميذاً في حضرتها، أنا ابن الشمال العراقي وعلاقتي بالشعر المحكي علاقة ودّية ليست علاقة انتماء مطلق كما هو الحال لدى ابن الجنوب العراقي الذي يتنفس شعراً محكياً، أكتب هذا اللون من الشعر في مناسبات إخوانية على سبيل المزاح وربما للترويح عن النفس في أحيان أخرى. وهو لاشك فن راق يستحق التقدير. معيار الزمن . في واقعٍ عربي متخمٍ بالشعراء، ظامئٍ للشعر، ما المعيار الذي يميز الشعراء عن غيرهم في نظرك؟ - الزمن هو المعيار الحقيقي، مهما تعدد الشعراء وتكاثرت القصائد فالزمن كفيل بغربلة الحقيقي، رفوف المكتبات الآن تزدحم بآلاف الأسماء والعناوين التي كانت قد شغلت الناس في زمن ما وانطفأت فيما عاش آخرون وخُلِّدوا كالمتنبي وأبي تمام وعمر بن أبي ربيعة ونزار قباني والجواهري ودرويش. . مؤسسة جائزة عبدالعزيز البابطين ليست مجرد جائزة، هي بدون شك هرم حضاري في ثقافتنا العربية، فوزك بجائزة أحسن قصيدة بمسابقة ديوان العرب التي أقامتها المؤسسة أخيراً، عن قصيدتك «إشراقة في أفق المعري»، التي دعا خطابها إلى محاربة الطائفية.. كيف تلقيت خبر فوزك؟.. وبكل واقعية، هل تعتقد أن الشعر قادر على إلغاء الفوارق وتوحيد الصف العربي اليوم؟ - من المؤكد أن لخبر الفوز بجائزة حلاوة في فم الشاعر، فكيف إن جاءت هذه الحلاوة في زمن المرارات الكبرى التي نعيشها، لقد سعدت بخبر فوزي، كما سعد به إخوة وأصدقاء من مختلف دول الوطن العربي غمروني بمشاعرهم النبيلة وتهانيهم العابقة بالمحبة، خصوصاً أن الجائزة جاءت من مؤسسة عريقة لها دور فاعل في صناعة الفعل الثقافي المبدع، أما فيما يخص قدرة الشعر على إلغاء الفوارق وتوحيد الصف العربي، فلا أستطيع أن أزعم بقدرة الشعر على فعل ذلك بالفعل خصوصاً أننا نقوم على إرث شعري هائل كان في الكثير منه مادة للخصومات، والشعراء ليسوا ملائكة بالضرورة، يكفي أن تكون هناك نخبة تؤمن بضرورة أن يكون للشعر دور في الإسهام في صناعة حياة أجمل. أما الصف العربي فلا أعتقد أنه سينتظم ما لم تنتظم أفكارنا في اتجاه الانتصار للإنسان على اختلاف لونه وشكله وانتمائه. الشعر السعودي . من خلال اطلاعك على الساحة الشعرية السعودية، كيف ترى/ تُقيم المشهد الشعري السعودي المعاصر؟ - المشهد الشعري في السعودية زاخر بالكثير من الأسماء اللافتة، لكن يبدو لي أن صوت الشاعرة في السعودية لا يحظى بمساحة الاهتمام نفسه التي يحظى بها صوت الشاعر، أقول هذا لثقتي بقدرات الشاعرة السعودية التي تحتاج إلى أن تتنفس القصيدة في الهواء الطلق.