صدمني أحد حديثي التخرج بسؤاله: ما الفرق بين الوقت الذي كنتَ تدرس فيه في الجامعة ووقتنا نحن؟ قلت له لعل الفارق جيل لكن ما حدث خلال هذا الجيل أعاد هيكلة حياتنا، ليس الجامعيةِ فحسب بل تقريباً كل ما حولنا، بما في ذلك تعاطينا مع بعضنا البعض وطرق تواصلنا كأهل وكأصدقاء، وتجاوز ذلك حتى لكيفية أداء العديد من المهام، خذ مثلاً الوضع الآن وكيف أصبحت الانترنت شريكاً في كل مقرر دراسي، فهي المكتبة الهائلة التي لم نك أيامنا بأي شيءٍ قريب منها! بل كنا نحرص لقضاء أكبر وقت للمكتبة إن كنا نُعدّ بحثاً، أما إن أردنا الوصول للمراجع ولاسيما الدوريات خارج المكتبة عن طريق التواصل بقواعد المعلومات والمكتبات الأخرى، فكان ذلك أمرا يحتاج إلى ترتيبات وينطوي على تكلفة ينوء عن تحملها معظم الطلبة. لا شك في ان التقنية تعيد هيكلة العالم من جوانب متعددة؛ فجبال هائلة من البيانات والمعلومات محفوظة في "سُحب" افتراضية تمكنك أن تصل لها عبر الانترنت، وأنت لست مُقيداً بالجلوس في مكتبك بل حُرّا طليقا؛ فبوسعك أن تبيع وتشتري وتوقع محاضر خطابات وتفوض صلاحيات وتنقل أموالا باستخدام جوالك وأنت قبالة سواحل البوسفور أو في مياه المالديف الضحلة أو أمام نوافير دبي الراقصة أو في مكتبك، الخيار لكَ. ولا ننسى أبداً أنك- وبفضل التقنية- لم تَعد وحيداً، بل العالم بأسره على بعد "ضغطة زر" لتصل لقنوات التواصل الاجتماعي، ومن خلالها للبشر، سواء أهلا أو أصدقاء أو زبائن أو معارف أو حتى زملاء في مكتب او تشترك معهم في اهتمامات جادة أو فقط للترويح عن النفس. وعندما تجمع كل هذه التغييرات التي لم تك موجودة وأصبحت في المتناول تجد أنك تمارس حياتك الجامعية بصورة مختلفة تماماً، أو على الأقل بوسعك أن تمارسها بصورة مختلفة، إذا استطاع الأساتذة التعايش واستيعاب التقنيات الحديثة التي لا يتوقف تدفقها. وفوق ذلك لابد من إدراك أن القادم سيكون بمثابة تحد حقيقي، وهو يتعلق بتحسين فهمنا للأشياء! مازلت أتذكر كيف كان تتبع الأخبار يتطلب جهداً كبيراً من الجيل الذي سبقنا، إذ كانوا ينكبون على تحريك "إبرة" راديو ضخم الحجم للإنصات لراديو لندن، أما الوضع الآن فكل المحطات تحت يدك من خلال الانترنت. وهكذا فلم يصبح التحدي متابعة الأخبار من مصادر مختلفة ولحظة بلحظة، بل نريد معرفة لماذا حدثت، وما الذي من المتوقع أن يحدث تبعاً لذلك، وكيف يمكن أن نؤثر في حدوثها؟ ولكل عنصر من هذه أدوات تقنية للوصف والتشخيص والتوقع والاقتراح. وإن كنا قبل جيل نتحدث عن ثورة المعلومات، فنحن حالياً امام ثورة للبيانات، والسبب أن التقنيات في السابق لم تك تسعفنا للتعامل مع جميع أنواع البيانات، بل كان لابد أن تصاغ في قوالب مقننة، أما الآن فنحن في طريقنا لتحليل أية بيانات بغض النظر عن القالب أو الصيغة، بما يؤدي لأن تتعامل معها التقنيات الحوسبية لتساعدنا أن نفهم ما يدور حولنا، وليس بعض ما يدور حولنا. بمعنى أننا بدأنا نكتشف أن كميات هائلة من البيانات هي حولنا لكننا لا نستوعبها– لسبب أو لآخر- وبذلك يكون إدراكنا قاصراً. وهنا قاطعني الشاب قائلاً: فعلاً كانت حياتكم خالية، قلت له: أنت لا تعرف ما لا تعرفه، ولذا فلم نفتقد آنئذ كل ما أتى لاحقاً من تقنيات ومنتجاتها، لأنها لم تكن قد اخترعت بعد. متخصص في المعلوماتية والإنتاج