قيل هذا الشطر من البيت في زمن يَعَزُّ فيه التواصل. وتَفْصِل المفازات بين أناسيه. وتحول البيد دون الأحبة ?، ?كما قال المتنبي:- أما الأَحِبَّةُ فالبَيْداءُ دونهمُ فَلَيْتَ دُونَكَ بيدٌ دونها بيد ومجيء الأخبار مع ثورة الاتصالات، وانفجار المعلومات، قد لا يثير الانتباه. ولربما تمر بالمتلقي أخبارٌ لها ما بعدها، ثم لا يُلْقِي لها بالاً، فإذا فعلت فعلها في مثمناته، ورهاناته، ضرب كَفًّا بأخرى. وندم ندامة [الكُسعِيِّ ]في ساعة لا ينفع فيها الندم. ولقد يكون لكثرة ضخ الأخبار، وتزاحمها أثرٌ في تفلتها من الذاكرة، وتَنْسِيَةِ بعضها لبعض. ثم إن ظاهرة التَّقَوُّل، والافتراء، والشائعات، والتوقعات تقلل من اهتمام المتلقي. وأيا ما كانت التبريرات، فإن على المجرب ألا يؤخذ على غرة. فكم يؤتي الحذر من مأمنه. قلت أكثر من مرة: إننا في زمن العُرْي، الذي لا مجال فيه للتكتم، ولا سبيل إلى مقولة:- [استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان]. وكم من قول مَصِيري خطير، استعان متداولوه بكل ما وسعهم من السرية على كتمانه، حتى لا تدري الأذن اليُمْنى ما سَمِعته اليُسْرى، أصبح على كل لسان، وطاف الآفاق في طرفة عين. ومن ثم يتحول الجهد لإنفاذ مقتضاه إلى لملمة أقتابه المندلقة بكل اتجاه. ما أود الإشارة إليه التخبط في استثمار هذه الإمكانيات المذهلة، والعجز عن توظيفها لمصلحة الفئة المتلقية. وتفويت مثل هذه الفرص النادرة، تمكين للخصوم من رقاب القضايا المصيرية. لقد كان [الْكِتَابُ] من قبل مصدر المعلومة. وكان أحدنا لكي يحرر مسائله، ويؤصل معارفه، يحتاج إلى جهدٍ، ووقتٍ، ليتوفر على المصادر، والمراجع. وقد يحتاج أحدنا كي يصل إليها إلى شد الرحال. ولربما يَصْرِفُ المحتاجُ نظره، وينطوي على همه، لعجزه عن توفير الظروف المناسبة للتنقيب عن المعلومة المطلوبة. أما اليوم فكل ما تريد الوصول إليه كامن في جيبك دَاخِلَ جهازٍ لا يملأ الْكَفَّ. ومع هذا يُفَوًّتُ المقتدر الفرصة على نفسه، وقد ينتابه العجز، ويقعد به التسويف عن اقتناص المعلومة بأسرع الأوقات، وأقل الجهود. إن ساعة من نهار يخلو فيها الإنسان مع هذا الجهاز المعجزة، تُزْوى له الأرضُ حتى يَسْتَبْطِن مشارقها، ومغاربها، ويعرف دِقَّها وَجُلَّها. والإشكالية ليست في الوصول إلى المعلومة، ولكنها في حسن التلقي، وحكمة التصرف، وبراعة الاستغلال. هذه الأجهزة المذهلة بإمكانياتها، وسعة استيعابها، وسرعة استجابتها، لم تكن خالصة للفائدة، فهي كالخمر، والميسر. فيها إثْمٌ كبير، ومنافع للناس. ولقد يكون الأثم أكبر من النفع، حين لايُحكِم المستفيد إدارتها. ولأنها أجهزة غير محرمة، فإن من أوجب الواجبات اتقاء المفاسد، واقتناص المصالح. وإذا كان [حافظ إبراهيم] قد لام أمته على تقصيرها بحق لغتها، وقال مؤنباً لقومه:- أَتَوا أَهْلَهم بالمُعْجِزَاتِ تَفَنُّنًا فَيَا لَيْتَكُمْ تَأْتُونَ بالكَلِماتِ فإن المتأذين من سوء استخدام هذه الوسائل، يودون من المتوفرين عليها، أن يُحْسِنُوا استثمارها، واستخدامها ؛ وكيف لا يبادرونها بما يعود عَلَيْهم، وعلى أمتهم بالنفع العميم!. وكيف يجازفون في سوء الاستعمال، وكل إنسان أُلْزِم طائره في عنقه، وتوعده الله بإخراج كتاب يلقاه يوم القيامة منشوراً. ويقال له من باب التأنيب، والتبكيت {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا}!. إن دخول المتأذي الوجل على مواقع التواصل، تصدمه البذاءات، ويزعجه سوء الأدب، ويهوله افتراء الكذب، ويخيفه تزويد الأعداء بزائف القول، وفاحش الإدعاء، وسخيف الافتراء، وذلك من الأفك العظيم، والتناجي الآثم. هذا الصنف المتطرف يفتري الكذب على عشيرته الأقربين، ولا يعير أي اهتمام لمقترفات الخصوم، البادية بكل عورها، والممارسة من قبل الخصوم بكل وقاحة. وفات هذا الصنف الوقح أن البلاء موكل بالمنطق، وأن الكلمة الفاجرة، يقولها الفارغ من كل القيم، لا يُلْقِي لها بالاً، تهوي بسمعة قومه، وتوهن عزماتهم، وتُحَوِّلهم من مُشْتغلين بما يعنيهم، إلى مدافعين عن نفسهم، مصححين للمفاهيم الخاطئة. وعوام المصريين يقولون:- [الرَّصاصة التي لا تُصِيب تُدْوِش] وعلى ذات الوتيرة نقول:- [الكلمة التي لا تُدِين تَشَكِّك]. ولعلنا نتذكر مقولة [النعمان بن المنذر] لـ [الربيع بن زياد العبسي] عندما سمع هجاء [لبيد بن ربيعة] له، وحال تبرئة نفسه، رد عليه النعمان:- قَدْ قِيْل ما قِيْل إِنْ صِدْقاً وإنْ كذباً فَمَا اعْتِذارك من قَوْل إذا قِيلا. القول الفاجر كالقذى، يترك أثره، وإن تضافرت الجهود على إزالته. ومما لا نوده لمجتمعنا، وقد حباه الله بإمكانيات، لم تتأت لغيره، أن يكون في مستوى إمكانياته، وأن يُعْطِي للآخر صورةً مشرفةً. ولا سيما أننا مجتمع يتصف بالحياد الإيجابي، وسياسة الاحتواء، والدفع بالقوة الناعمة. هذا المجتمع الذي خَيَّبَ رهانات الأَعْداء، بتماسكه، وصلابة جبهته الداخلية، واجب شبابه، ونخبه، وعلمائه أن يكونوا أبعد الناس عن التراشق بالكلمات، والتدافع بالقول المسف، فالمسلم مطالب بالقول السديد، ولا يصعد إلى الله إلا الكلم الطيب. ومن الخطورة أن يقترف أحد النكرات خطيئة الاتهام، لأهل قرية وادعة، أو لقبيلة نبيلة، في سيرتها، ورجالاتها، ومواقفها، لمجرد أن مُنْتَمٍ لهذه القرية، أو لتلك القبيلة أساء الأدب في خبر كاذب، أو تغريدة فاجرة. والأسوأ من ذلك كله أن يَهُبَّ أبناءُ القرية، أو أبناء القبيلة إلى الدخول في تلك المعمعة، للمعاقبة بالمثل، في حين أن الله أثنى على {الَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا}. كان بودي أن تكون هناك مؤسسةٌ رقابية، تلاحق هذا الصنف من المتفحشين، وتأخذ على أيدي السفهاء، وتحول دون تشويه صورة مجتمع مثالي، يحتكم إلى الكتاب، وصحيح السنة. وأمام هذا الطفح الرخيص، لا نود أن نكون كالنعامة، نَدُسُّ رؤوسنا في التراب، ونقلل من خطورة هذه الظاهرة. ونَدَّعِي أنها من الوقوعات التي لاقيمة لها. العقلاء يسؤوهم ما يُتداول من تغريدات بذيئة، تطال مسؤولين شرفاء، أو مدن كريمة، أو قبائل عزيزة، أو سمعة دولة بأسرها. ومهما كان تصورنا لمثل هذه الظواهر، فإننا بأمس الحاجة إلى ممارسة الردع، والأخذ بِحُجَزِ المندفعين إلى مهاوي الرذيلة، وتربية الأذواق، وترشيد المسار. أحسب أنني لست بحاجة إلى استدعاء الإحصاءات المخيفة عن تكاثر المغردين ضد البلاد، وأهلها، وأنواع التغريدات، فذلك حاضر الأذهان المتابعة، والراصدة. خطبة الجمعة في المسجد الحرام لـ [آل طالب] تقطع قول كل خطيب، فلنستمع القول، ولنتبع أحسنه.