×
محافظة مكة المكرمة

الأمير مشعل يوجه بترقية 38 موظفًا من منسوبي ديوان مكة

صورة الخبر

يدّعي رموز الحداثة في كثير من أقطار هذه الدنيا أن– ظاهرة– التواصل بين الأجيال الفكرية هي ظاهرة غير صحية، فلابد من حدوث- تصادم- فكري بين جيل وجيل. فالأجيال– الحداثية– الجديدة لابد أن تنشغل بـ- هدم الأفكار واعادة بنائها من جديد- وهذه المهمة تتعارض تماما مع التواصل الفكري بين الأجيال شكلا ومضمونا. ويبدو هذا الادعاء، في حد ذاته أقرب مايكون إلى– الهلوسة– منه إلى أي تفكير عقلاني راجح، ذلك أن عدم احترام العطاءات الفكرية والأدبية لأجيالنا السابقة يعد خرقا واضحا لناموس– التأثر والتأثير– وهو ناموس لا غنى عنه، ولا يمكن استبداله بهدم الأفكار القديمة لبناء أفكار جديدة في محاولة كما يصفها الحداثيون بـ- تحريك- الركود الابداعي في الفكر والأدب. ولا أدري كيف سيتم هذا التحريك اذا قمنا بفصل جيل عن جيل لمجرد الرغبة في– التجديد– أو لمجرد الراغبة في التمرد على أي شكل أدبي قديم؟ إن تكريس فكرة الصراع بين الأجيال، أو تقسيم الابداع الفكري بين جيل وجيل لا يبدو تكريسا صائبا، بل هو ظاهرة مرضية، ذلك أن الحياة هي حلقات من التواصل وأنشطة الانسان الفكرية التي تُعد حلقة من حلقات هذا التواصل، فمن أين تجئ التجزئة؟ بل من اين يجئ التصادم بين الأجيال؟ فأدبنا المعاصر جاء ثمرة من ثمرات عطاءات أجيال سابقة، قدمت لنا ما استطاعت أن تقدمه من معطيات فكرية مختلفة، في الشعر أو القصة أو الرواية أو المسرحية، ونحن بدورنا سوف نسلم ما نعطيه لأجيالنا اللاحقة عملا بسنة تواصل الحياة واستمراريتها، فكيف يدّعي البعض أن بامكانهم– تفكيك– الفكر واعادة بنائه من جديد بأساليب تختلف كليا عن أساليب الأقدمين وربما عن أساليب المعاصرين أيضا؟ وربما لا يكون– التجديد– في حد ذاته منكرا، أما أن نقوم بتجاهل التراث الذي يُعد من أهم جسور التواصل والاستمرارية، فهذا هو المنكر بعينه، فجذورنا التراثية هي التي نستقي منها الابداع، ونقوم باضافة أشياء اليها من عندياتنا، أي أننا نقوم باضافة لبنة جديدة في صرح تراثنا الفكري ليكون أكثر شموخا وقوة لا أن نعمد إلى هدم هذا البناء من أساسه. ونعيد– تركيبه– من جديد كما نشاء. وهذا يعني أن– تواصل الأجيال– كمصطلح أدبي يبدو أكثر صحة وعافية من مصطلح– تصادم الأجيال– رغم أن المعركة الدائرة بين رواد المصطلحين لا يمكن لها أن تؤدي كما يظن بعضهم إلى الغاء الأجيال القديمة، أو مصادرة معطياتها، أو حتى تشويه صورها الجميلة أو محاولة تزييف مساراتها الأدبية الغائرة في النفوس والقلوب. إن معركة– التصادم– بين الأجيال لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تلغي معطيات الأجيال الأدبية، كما أنها لا يمكن أن تلغي حقيقة التواصل تحت حجج وادعاءات غير منطقية أو معقولة. ويبدو أن أوجه الخلاف بين من يؤيد التواصل وبين من يدعو إلى التصادم علانية قد تعود في مجملها إلى غياب حركة نقدية واعية بين أوساطنا الأدبية مما دفع بالفريقين معا إلى الانزلاق في هوة بلبلة، أدت إلى انحسار أضواء عدد من الأدباء الواعدين في عالمنا العربي كله، والا فان تواصل الأجيال الأدبية والتصاقها لا يبرران عدم وجود خلاف بين جيل وجيل، وهو خلاف طبيعي أدى إلى العبث بتراثنا الأدبي العريق بما يحمله من مقومات لا يمكن التغافل عن أهميتها. غير أنني أرى أن فكرة– التصادم– في حد ذاتها اذا فهمت بأنها تعني– تفكيك– الأفكار واعادة بنائها من جديد، كما هو المفهوم الحداثي لها، فانها في هذه الحالة تكون فكرة– عبثية– خالصة، ذلك أن الواقع الثقافي لأي أمة من الأمم يؤمن بأن الكتابة الأدبية، إما أن تكون جيدة ذات ابداع، واما أن تكون رديئة وخالية من أي ابداع، ولا يمكن الربط بين فكرة التصادم وعوامل الزمن، ذلك أن لكل جيل من الأجيال الأدبية ظروفه الاجتماعية ومؤثراته التي ربما لا تتفق بالضرورة مع أجيال لاحقة له، بمعنى أن كتّاب الستينيات على سبيل المثال لا الحصر، عايشوا واقعا يختلف عن واقع التسعينيات، ورغم استنزاف الأغراض الأدبية التي مارسوها، الا أننا لا نستطيع القول إن الفوارق بين الأجيال قد تؤدي إلى تصادم بين الأغراض الفكرية القديمة والجديدة بشكل يحث على هدم البناء القديم من أساسه لننشئ على أنقاضه بناء آخر يتمتع بمواصفات جديدة تماما. وهذا يجرني إلى القول بأن الابداعات الكتابية الجيدة لا علاقة لها بالفواصل الزمنية، وانما هي حلقات متماسكة تتأثر كل واحدة بالأخرى، ونتجت بشكل طبيعي من المنجزات الثقافية الانسانية عبر العصور، وهي منجزات ثابتة ومستقرة ومؤثرة، فكيف يمكن– تخريب– هذه المنجزات، وبعثرة تلك الحلقات بحجة خلق أدب جديد يعيد– صياغة العالم-؟ ولعل منشأ هذه– الصياغة– إن صدق ظني، يعود إلى هذا القلق المتماوج بين أضلع الأجيال الجديدة، وإلى هذا– التوتر– النفسي الواضح في سلوكيات شريحة كبيرة منهم، وإلى خوفهم من المستقبل، وهذه الأسباب وغيرها قد تزج بهم إلى هوة– احباط– سحيقة جدا، فيرون أن باستطاعتهم وفق هذه الأجواء– المتوترة– أن يعيدوا صياغة العالم من جديد عن طريق فكر حداثي طليعي جديد لا علاقة له من قريب أو من بعيد بأي عطاء قديم أو حديث. ولا شك أنها رؤية موغلة في الخطأ، ذلك أن الجيل الجديد لابد أن يتعلم أشياء كثيرة من الأجيال السابقة، فلا يمكن انشاء الأفكار من فراغ، بل لابد من انشائها على أسس ودعائم وركائز قوية لضمان استمرارية بقائها، فالتواصل بين الأجيال تمليه الضرورة، ولايمكن القول بصحة مفهوم– التصادم– بين الأجيال، لأنه ليس صحيحا بأي وجه من الوجوه، ولا يمكن التصديق بحججه الوهمية الواهية لأنها لاتستند على أي حقيقة يمكن الأخذ بمسلماتها وأسبابها.