يبدو أن الرئيس التركي رجب طيب إردوغان لا يقاوم إغراء الخطابة وسحر اللحظة، فيندمج فيها بشكل صوفي. يتضاعف هذا الوجد والخطف الصوفي حينما يمتزج به حنين التاريخ، ينقش في الذاكرة الجريحة - خصوصا تركيا الموزعة بين الرئيس والخليفة - بمطامح الحاضر. السبت الماضي قال إردوغان في ملتقى قيادات المؤسسات الإسلامية بأميركا اللاتينية إنه «واثق من أن المسلمين هم من اكتشف القارة الأميركية في القرن الثاني عشر وليس كريستوفر كولومبوس الذي وصل إليها بعد ذلك بمائتي سنة»، مضيفا: «كولومبوس تحدث عن وجود مسجد على تلة على ساحل كوبا». وفي عودة خاطفة للحاضر يؤكد: «أنقرة مستعدة لبناء مسجد في الموقع الذي تحدث عنه المستكشف الجنوي». موضوع مَن هو الأسبق لاكتشاف أميركا اللاتينية والشمالية، العالم الجديد، محل بحث تاريخي، وفعلا هناك نصوص في تراث المؤرخين المسلمين تتحدث عن قيام بحارة مسلمي الأندلس والمغرب الأقصى برحلات إلى العالم الجديد، خلف بحر الظلمات، ومن ذلك المؤرخ المسعودي صاحب «مروج الذهب». محمود شاكر، مؤرخ سوري ينتمي إلى مدرسة كتابة التاريخ برؤية إخوانية، وهو قدير في مادته، كتب عن «خدعة الكشوف الجغرافية»، وتبيان النيات الشريرة في رحلات «ماجلان» مثلا. الحق أن كل تلك العصور كانت تنتمي إلى فضاء ثقافي وسياسي متشابه، فهي عصور الفتوحات والغزوات الدينية، لم تكن فكرة الوطن وفكرة السلام العالمي مطروحتين لدى بشر تلك العصور، كلهم، فلا يجوز نقد الماضي بمعايير الحاضر. هذه سذاجة. الصليبيون من أوروبا انطلقوا في حروب مقدسة لغزو بلاد الشام و«الأرض المقدسة» وقتلوا ونهبوا واستقروا حينا من الدهر، بل إن الغازي والبحّار البرتغالي الشهير ألبوكيرك كان يزمع مهاجمة مقدسات المسلمين في مكة والمدينة. كان زمنا من طراز خاص، يخبرنا المؤرخ الفرنسي رينيه غروسيه فيقول: «المسلمون هاجموا الغرب في عقر داره، أي أوروبا، فإسبانيا وقعت بكاملها تقريبا تحت الفتح الإسلامي منذ الفترة الممتدة بين 718 و771م، ومنذ ذلك الحين شرعت غاليسيا واستوريا ووديان البيرنيه في الكفاح. وفي القرن التالي لذلك قام مسلمو تونس (سلالة الأغالبة) بفتح جزيرة صقلية من البيزنطيين (فتح باليرمو عام 830م، ومسينا عام 842م، وسيراكوزة عام 876م). وقد استطاعوا تثبيت أقدامهم حتى في شبه الجزيرة الإيطالية، حيث احتلوا باري عام 848م وتاراتنو عام 856م. وقامت إحدى فرق المسلمين بعملية اتصفت بجرأة واجتراء خارقين، تمكنوا فيها من الإغارة على كنيسة مار بطرس الكبرى في قلب روما عام 846م». ثمة كتاب لأمير البيان شكيب أرسلان تحدث فيه عن تاريخ غزوات العرب في فرنسا وسويسرا وإيطاليا. هذا فيما مضى، فماذا يريد الرئيس إردوغان من إثارة هذه الذكريات وهو يعلم جيدا مدى تأزم الذاكرة الغربية التاريخية مع العثمانيين خاصة، والمسلمين عامة؟ هل هو تلاعب بالعواطف أم مشروع جاد لدى هذا السياسي التركي؟ لا ندري، لكن المؤكد أن العيش في التاريخ قد يكون وصفة للكارثة. m.althaidy@asharqalawsat.com