القاهرة: جمال القصاص ما الدوافع وراء ترجمة بعض الأعمال الروائية الأجنبية إلى العربية أكثر من مرة، من قبل مترجمين متعددين، خصوصا في حال فوز كتاب هذه الروايات بجوائز عالمية؟ هل يتعلق الأمر بسوق النشر، أم يعكس أزمة ثقة في الترجمة نفسها والمترجمين أيضا؟ أم يشير إلى افتقاد عالمنا العربي مؤسسات أكاديمية ومعاهد متخصصة، تتعامل مع الترجمة كعلم وفن، لها دورها الحيوي في تطوير الفكر والمعرفة الإنسانية، وجذب القارئ للنص المترجم بمتعة خاصة. «الشرق الأوسط» استطلعت آراء نخبة ممن لهم باع في الترجمة، في محاولة لسبر أغوار هذه الفجوة الشائكة بين المترجم والنص الذي يقوم بترجمته، والقارئ المثقف المتلقي له، والبحث عن وشائج صحية لهذه العلاقة. يقول الشاعر والمترجم محمد عيد إبراهيم: «الترجمة من جديد، سؤال مهم للثقافة العربية. فهناك كتب تتم ترجمتها مرتين أو أكثر، في حين توجد كتب أخرى لم يلتفت إليها أحد. وهذه مسألة شائكة، إذ لم يكن هذا شائعًا في النصف الأول من القرن العشرين، ولا في معظم نصفه الثاني، لأن المهم كان ترجمة الكتب أولاً بأول. مثلاً دار (الكاتب المصري) التي كان يديرها طه حسين كانت تترجم الأدب الفرنسي بالتزامن مع دار (غاليمار)، فيصدر الكتاب باللغتين في وقت واحد. وهي خطوة حضارية بالغة الأهمية. وفي الستينات راحت هيئة الكتاب تصدر سلسلة (الألف كتاب) التي أخرجت تنويعة هائلة للثقافة الأجنبية، وغيرها». ويوجه محمد عيد سهام النقد إلى الدولة، مشيرا إلى أنها «بعدما تخلت عن دورها إلى حدّ ما، راحت مشروعات الترجمة في طريق فردي، حيث صار لكلّ مترجم ذائقة، من دون خطّة عامة تختار وتسعى إلى تقديم المميز والخطير في تلك الثقافات المختلفة إلى القارئ العربيّ. لكن علينا أن لا نغفل طبعًا، الدور الكبير الذي تقوم به مؤسسات عربية كبيرة، كالمنظمة العربية للترجمة، والمركز القومي للترجمة أحيانا، وسلسلة الجوائز في هيئة الكتاب، و(عالم المعرفة) في الكويت، ومركز (كلمة) في أبوظبي وغيرها». ويرى صاحب الترجمة الشيقة لقصيدة النثر الأميركية «مقدمة لقصيدة النثر - أنماط ونماذج» أن للترجمة المتعددة للكتاب الواحد مساوئ كثيرة، لافتا إلى أن هناك دُور نشر «تتاجر في كتب المشاهير، وخصوصا من يفوز بجائزة كبرى، حتى لو صدرت من قبل. ويتابع: «حكاية الترجمة في مصر والبلاد العربية لا تزال بحاجة إلى رؤى منظمة، وخبرات محنكة في توجيه المترجمين إلى المزيد، مما لم يُترجم من قبل. فنحن في مسيس الحاجة إلى نواحٍ مختلفة وحداثية لم نتعرف عليها. وهناك نواحٍ علمية لا يقترب منها أحد أو على استحياء، كالفنون الجميلة مثلاً، عدا العلوم الأخرى المنتشرة التي تحتاج إلى جهود مترجمينا، مثل نصوص الحداثة وما بعدها... إلخ». أما الكاتبة الروائية سهير المصادفة، المسؤولة عن ترجمة «سلسلة الجوائز»، المعنية أساسا بترجمة الروايات العالمية الفائزة بجوائز إلى العربية، وهي واحدة من أهم إصدارات الهيئة المصرية العامة للكتاب، فتؤكد أن العالم العربي يفتقر إلى ببلوغرافيا وحصر شامل لإنجازات الترجمة بشكل عام، منذ أوائل القرن العشرين وحتى الآن، بهدف ترتيب المكتبة العربية، وإعادة تنقيح وطبع الكتب التي نفدت، وشراء حقوق الملكية الفكرية لمن يستحق من الرواد. وبنبرة أسى، تقول صاحبة رواية «لهو الأبالسة»: «لقد بُحَّت أصواتنا في التأكيد على أن العالم العربي يعجز، حتى الآن، عن تكوين بنك معلومات للترجمة، وهو عمل مؤسسي ضخم. كذلك نحتاج إلى نشر خطط الترجمة المستقبلية لإعادة نشر هذه الكنوز، لتكون خطوة على درب التنسيق الذي تفتقر إليه المؤسسات المعنية بالترجمة عند ترجمتها للأدب والفكر المعاصر، مما أدى إلى مزيد من العشوائية، وتبديد جهود المترجمين المحترفين الذين هم، في الأصل، قلة قليلة في العالم العربي». وحول طبيعة المترجم في العالم العربي، تقول المصادفة: «المترجم لا يعرف ماذا يترجم زميله في هذه اللحظة، ومن ثم نجد العنوان الواحد بترجمات مختلفة، كما أن هناك بعض المترجمين الذين حققوا أسماء لامعة في مجال الترجمة، وتطلبهم دُور النشر بالاسم لإعادة ترجمة العمل المترجم نفسه منذ أشهر أو سنوات. وتطرح المصادقة، في ختام حديثها، سؤالا مهما قائلة: «إننا نجد ترجمة أفضل من ترجمات أخرى عدة. لكن لماذا لم يحدد الناشر بأنها ستكون الأفضل قبل النشر وتبديد الجهد والمال؟ أظن أن غياب الرؤية الاستراتيجية للنهوض بالترجمة في العالم العربي مسؤول مسؤولية كاملة عن تدني معدلات الترجمة الناجمة عن عشوائية الإنجاز». أما الشاعر والكاتب المترجم طاهر البربري فيؤكد أن فوضى الترجمة لا تنفصل عن حالة الفوضى الحادثة في الثقافة العربية. ويقول: «لا أعتقد أن هناك دوافع منهجية لها علاقة أصيلة بالعمل في حقل ترجمة النصوص الأدبية، تفضي إلى ترجمة عمل أدبي من لغته الأم / المصدر إلى لغة أخرى أكثر من مرة سوى حالة العبث والفوضى التي تعيش في مغبتها ثقافة مثل الثقافة العربية. هناك وهم كبير مرتبط بالجوائز الأدبية في مجال الرواية، إضافة إلى عقدة نقص ضاربة بجذورها في ثقافتنا، تجعلنا نتعامل بكثير من الإكبار والإجلال مع أي جائزة أجنبية، ومن ثم تصيبنا على الفور حمى نقلها إلى العربية في محاولة تجارية، أظنها فاشلة، لتحقيق بعض الربح المالي». وينتقد البربري غياب خطط التنسيق والربط بين دُور النشر العربية، لافتا إلى أن الأمر لا يتعلق فقط بالروايات الأجنبية الحائزة على جوائز، بل ويتجاوز هذا إلى أعمال شعرية وفكرية وكتابات مرجعية كبيرة. لا يوجد تنسيق بين مؤسسات النشر العربية، ولا توجد خطط طموحة أو غير طموحة، مشيرا إلى أن مشروع «كلمة» بدولة الإمارات يعمل في واد، ومؤسسة محمد بن راشد آل مكتوم في واد آخر، والأمر ذاته ينطبق على المركز القومي للترجمة بمصر، بالإضافة إلى عشرات دُور النشر الخاصة على مستوى العالم العربي، ويخلص البربري، الذي ينادي بنقابة خاصة للمترجمين إلى القول: «نحن باختصار ثقافة تحترف المتاجرة في الخسران بلا شك. عملنا في حقل الترجمة للأسف ما زلت أراه ممارسة فردية، لا تخلو من نوازع مغرضة لتسليط الضوء على ظواهر أو شخصيات ذات حضور سياسي أو أدبي معين، ولا علاقة لها بمتطلبات بناء واقع ثقافي محترم ومحايد يدعم الحضور المعرفي ويجعله مقدما على العبث الدعائي، الذي تديره بسفه، مؤسساتنا ومشروعاتنا الثقافية. الكارثة الأكبر ترتبط بشدة بأقسام تدريس اللغات في العالم العربي، وما ينبثق عنها لا علاقة له، من قريب أو بعيد، بفكرة الترجمة أو التلاقح بين الثقافات وعمليات الفرز التي يسفر عنها نشاط الترجمة». وحول أهمية إعادة الترجمة الأدبية، كحافز لتنشيط آليات التفكير، على المستوى الأكاديمي العلمي والفني، تقول الكاتبة والمترجمة الدكتورة نجوى السودة: «يمكن أن نقترب من النص الأدبي من خلال محورين مختلفين: وجهة نظر الكاتب الذي قدم النص، ووجهة نظر القارئ، المثقف، والناقد الذي يحاول أن يرسم وجهة نظره حول النص». وتستدرك السودة متسائلة: «لكن ما الذي يدفع المترجم، روحيا وسياسيا، إلى ترجمة ذلك الكتاب أو الرواية؟ وتجيب مؤكدة أنه يندرج تحت هذه النقطة أيضا أن ندرك أهمية ترجمة أدب اللغات الأوسع انتشارا وقراءة في العالم التي يثار جدل حولها، كالإنجليزية مثلا، ولماذا تحتل مكان الصدارة كلغة مقروءة ومترجمة تصل إلى كم لا يعد من القراء، ولذا يعاد ترجمة النصوص من اللغة الأم إليها فيفقد النص الكثير من روحه وخصوصيته، ولا يجد كثير من القراء إلا أن يجاروا الناشرين وعامة القراء». وتؤكد السودة أن اللغة الإنجليزية تفتح الباب على مصراعيه لدور النشر الأجنبية، لتنشر ما تود تبعا لأهداف تدخل فيها السياسة العالمية في بعض الأحيان، وتتقلص بالتبعية أدوار اللغات الأقل انتشارا. وتشير هنا إلى أهمية الدور الذي لعبته اللغة العربية وقت الغزو العربي لإسبانيا، وكيف تضاءل حجمها كثيرا. وتذكر أن الإسبان كانوا وقت الغزو يطلبون اللغة العربية كي يتعاملوا بها ويقرؤوا بها ويدرسوا أيضا. وتضيف: «منذ القرن الثامن إلى القرن الثاني عشر صارت العربية هي اللغة العلمية للإنسانية. وخلال تلك الحقبة كان كل من ابتغى أن يتقدم في العالم، ويصبح ماهرا ورجلا مثقفا، يدرس اللغة العربية، تماما كما هو حال اللغة الإنجليزية في وقتنا الحالي، حيث تفتح الباب للتقدم العلمي والفني للطموحين».