القاهرة: محمد رُضـا بينما تستمر دورة مهرجان القاهرة السينمائي وتقترب من نهايتها يوم الثلاثاء المقبل، تنطلق بضعة مهرجانات أخرى على مدى الأسابيع القليلة المقبلة من الآن وحتى منتصف الشهر المقبل. مهرجان سينمائي أقيم في الجزائر ومهرجان قرطاج التونسي في التاسع والعشرين من نوفمبر (تشرين الثاني) الحالي. بعده مباشرة يبدأ مهرجان مرَّاكش السينمائي الدولي وقبل نهايته في الـ13 من ديسمبر (كانون الأول) المقبل، يبدأ مهرجان دبي السينمائي الدولي ما بين الثامن والـ14 من الشهر. وفي حيّـز ضيق بين الاثنين يُـقام مهرجان «أجيال» في الدوحة من الأول حتى السادس من ديسمبر (كانون الأول). وقبل ذلك، وعلى أعتاب نهاية مهرجان القاهرة السينمائي الحالية، تنطلق عروض مهرجان آخر يقام في القاهرة هو «بانوراما السينما الأوروبية» الذي هو، حسب مصدر مسؤول في مهرجان القاهرة «مدعوم بميزانية خاصّـة مؤمّـنة من قِـبل الاتحاد الأوروبي ويشهد إقبالا جماهيريا كبيرا». الحديث عن انعدام التوازن بات لا ينفع من حيث تكراره. مهرجاناتنا السينمائية العربية الأساسية تنطلق جميعا في الأشهر الـ3 الأخيرة. ينفد مهرجان أبوظبي بجلده كونه يتقدّمها جميعا وسريعا ما يكسب سباقها الكبير. دبي يختمها ويستعين بسمعته الجيّـدة وبتاريخه الحافل ليسحب السجادة من تحت أقدام المهرجانات التي تأتي بعد أبوظبي وتسبقه. بعضها، مثل مهرجان مراكش، لا يبدو مكترثا لمن ينافس من فهو يعتبر نفسه بمنأى عن هذه المشاغل. النقد السابق بأنه أدار ظهره للسينما المغربية ذاتها ولم يشجّـعها بات مكررا والنقد الآخر بأنه لا يكترث لعرض الأفلام العربية غير المغربية صحيح وهو لا يخفي ذلك. في حين أن مهرجان «أجيال» القطري ما زال يمشي على أرض رخوة كونه ما زال طري العود يحمل رغبة الاختلاف عن السائد بتشجيع المواهب الجديدة. إنه حيّـز صغير من الاهتمام. نطاق يعرّض المهرجان إلى أزمة إذا لم يجد بين تلك المواهب ما يستحق أن يبني عليه صرحه. سيتم غزو الشاشة في «أجيال» بأفلام أولى وثانية لمخرجين شبّـان من حول العالم، لكن الخشية هي أن لا تستطيع أفلام منتجة هنا المشاركة بزخم فاعل على مدى كل الدورات، وذلك تبعا لغزارة وجودة الإنتاجات الممكنة. كل مهرجان من هذه الدائرة الآن يسعى للاختلاف عن أمثاله. بالنسبة لمهرجان القاهرة فإن الزخم الذي واجهه من قِـبل الجمهور منذ افتتاحه وحتى اليوم لم يشهد تراجعا. الإقبال عكس شوقا وشغفا بمشاهدة الكم الكبير المتاح من الأفلام العربية والأجنبية التي أفرزتها هذه الدورة وتوق لمعرفة ما إذا كانت السينما في مصر وفي باقي دول العالم العربي تتحرّك قدما وكيف؟ والجواب يأتي يوميا على شكل أفلام تعكس واقع السينما العربية في هذه المرحلة. وفي حين أن هذه الأفلام قادرة على إثارة الأسئلة بدورها وطرح الأفكار وبعض الرؤى، فإنها بمجموعها تبدو كما لو كانت آخر خط دفاع ثقافي متاح أمام الفرد العربي لتحدي الأحداث الجارية والتغلّـب عليها. لا عجب أن هذا الحضور، إذن، يعكس رغبة في التأكيد على حب الجمهور المصري للعودة إلى الوضع الذي كانت فيه الحياة الثقافية مرصّـعة بالنشاطات من معارض وحفلات موسيقية ونشر كتب ومؤلّـفات متنوّعة وإنتاج الأفلام على نوعيها التجاري الموجّـه، بقناعة، للجمهور السائد، وتلك البديلة أو المستقلة أو الذاتية (التسمية لم تعد ذات شأن) التي تتوجه، بقناعة أيضا، إلى الفئة الباحثة في الفيلم عن الفن والطرح الثقافي أو السياسي في بعض الأحيان. * مهرجان قرطاج ضرورة ثقافية * مهرجان قرطاج يستند إلى تاريخه كمحفل لعرض الأفلام العربية والأفريقية في مسابقة واحدة. قليل من التقدم المنتظر منه هذا العام بسبب الأحوال السائدة وبسبب أن معظم ما يعرضه من أعمال عربية قديم شوهد في محافل أخرى. لكن عودته، مثل عودة مهرجان القاهرة، ضرورة ثقافية وسياسية لا ريب فيها. وفي مرحلة هي حرجة حتى من دون تلك العوامل السياسية المختلفة والحالات الأمنية والاقتصادية، فإن توزيع الفيلم المهرجاناتي معدوم. الواحد منها لديه حظّ كبير واحد ثم تتعدد حظوظ أخرى أصغر شأنا. رهان الفيلم المهرجاناتي (أي الذي ينشد الاشتراك في المهرجانات السينمائية متميّـزا بجدّته ونوعيّـته) على أول مهرجان يختاره وسواء أنال واحدا من جوائزه المادية أم لم ينل، فإنه يأمل للانتقال إلى مهرجانات أخرى. هذه المهرجانات هي عصب حياته الحقيقي ولسبب مؤسف ولكنه وجيه: لا وجود لفرص عروض أخرى، ولو كانت لما استفاد الفيلم وحده بل كل الأفلام ولترعرعت الصناعة السينمائية ونمت كما لم تفعل من قبل. لكن لا المحطّـات التلفزيونية تكترث لأن تشتري، ولا الموزعون راغبون في بذر بضعة ألوف من الدولارات لشراء ما يعتقدون أنه لن يعود عليهم إلا ببضع مئات. كذلك يرفض كل أصحاب الصالات تخصيص صالة واحدة لعرض الأفلام «الفنية» ولو على أساس الرهان على مستقبل أفضل وتأسيس جمهور يعتاد على وجود هذه الصالة وأعمالها المتميّـزة. هذه ليست عوائق صغيرة وبسيطة، ونتائجها وخيمة من حيث إن السينما العربية باتت منقسمة إلى قسمين بينهما فاصل كبير: أفلام محدودة العدد (معظمها مصري الإنتاج) يعرض في صالات السينما، وأفلام كثيرة الإنتاج (من كافّـة الدول العربية المنتجة) تتجه إلى المهرجانات. أفلام النوعية الأولى هي التي تدر إيرادا ماديا (مجزيا وكبيرا في بعض الحالات) بالطريقة التقليدية وهي بيع التذاكر للجمهور. في حين أن أفلام النوعية الثانية هي تلك التي لا تجد لنفسها صالات عرض تساعدها لتوسيع فرص احتكاكها بالجمهور العام. في مواجهة التطرّف أفلام المهرجانات العربية محاصرة، كما يتّــضح، باستثناء اتجاه واحد هو التنافس على الجوائز الكبيرة. فعندما ينال المنتج أو المخرج 100 ألف دولار (أو يزيد في بعض الأحيان) عن فيلم حققه (ميزانيات اليوم لا تقل عن ضعف هذا المبلغ كمعدّل عام) يكون سدد جزءا من الكلفة الكبيرة وعاد مزهوّا بنصيب مالي من غير المتوقع، في الكثير من الحالات، تحقيقه من جراء السوق السينمائية. لكن هناك استثناءات. فيلم «وجدة» لهيفاء منصور فاز بجائزة أولى وفاز بعروض تجارية ولو في صالات الغرب. كذلك فيلم «كرامل» للبنانية نادين لبكي. وكانت أفلام يوسف شاهين تعرض في المهرجانات وتحقق بعض الكسب في فرنسا وبعض صالات العالم العربي. واليوم يقف «القط» لإبراهيم البطوط في الخانة المنفتحة على هذه الاحتمالات ذاتها. بعد عرضه في مهرجان أبوظبي (حيث خرج خالي الوفاض من الجوائز المباشرة)، يدخل نطاق مهرجانات أخرى هنا وهناك ويحضّـر نفسه لعروض تجارية أيضا. لكن هذه هي فعلا الاستثناءات. أما القاعدة فباتت أن الفيلم، فاز أو لم يفز، يولد على شاشة المهرجانات ويموت عليها حال انتهاء عروضه. «القط» واحد من الأفلام المعروضة في مسابقة «آفاق السينما العربية» جنبا إلى جنب مع الفيلم الموريتاني «تمبوكتو» لعبد الرحمن سيساكو (الذي سيفتتح مهرجان قرطاج) والأردني «ذيب» لناجي أبو نوار والتونسي «شلاط تونس» لكوثر بن هنية والمغربي «الصوت الخفي» لكمال كمال والفلسطيني «ستيريو فلسطين» لرشيد مشهراوي والكويتي «كان رفيقي» لأحمد الخلف واللبناني «يوميات شهرزاد» لزينة دكّاش. لجنة تحكيم هذه المسابقة (المؤلّـفة من الممثلة ليلى علوي والمنتج التونسي نجيب عيّـاد والناقد محمد رُضا) تجد لديها الكثير مما تعاينه في أفلام كلها جيّـدة وبعضها لا يصح تجاهل حقّـه في واحدة من الجائزتين اللتين ستمنحهما في الليلة الأخيرة من ليالي المهرجان. لكنها المهمّـة الصعبة التي لا بد منها. في الوقت ذاته، هناك الكثير من الحديث في أروقة مهرجان القاهرة ومقاهيه في دار الأوبرا عن وضع الفيلم العربي، لكنه ليس الحديث الذي يستطيع تغيير السائد. لا وجود لمنتجين يملكون القرار بفتح الحنفية المغلقة لدر بعض الاستثمار في المواهب الفنية ولا لموزّعين أو أصحاب صالات يقررون ما هو خير للبلد في حربه ضد التطرّف. من هنا، إقامته، وإقامة سواه، تبقى، في عرف كثيرين هنا، خير ما يمكن تسديده على هذا الصعيد من سهام ضد أوضاع التطرّف والتهديد الأمني الموجود. لذا ليس غريبا أن نجد الفنانين والمعنيين يتحدّثون في تصريحاتهم الصحافية وسواها عن انعقاد هذه الدورة وجدواها في مواجهة التطرّف وأعداء مصر الذين يريدون تقويض أمنها. على ذلك، فإن إيجابيات هذا المهرجان المتعددة، تجابهها حالة مستمرّة من السلبيات معظمها في نواحي التنظيم بين من هم دون مستوى الإدارة العليا. هذا رغم أن البعض، من الإداريين الكبار أيضا، ينتقد بشدّة القسم الآخر من الإداريين الكبار متسائلا عن السبب في الفوضى التي تقع في عروض الأفلام (من تأخير ومن تجاوزات في شروط العرض وسواها). وعن أحدهم الذي لا يريد ذكر اسمه: «هناك أخطاء رهيبة نعلم بها نحن أكثر من الإعلام والجمهور. مال تتساءل أين صُـرف وموظفون مسؤولون لا يفعلون شيئا. هناك خيبة أمل وتخبّط شديد. يكفي ما ساد حفل الافتتاح من فوضى غير مفهومة الأسباب رغم الخبرة المتراكمة والوقت الذي كان متاحا لتفادي مثل هذه التجربة». الفريق الآخر يرد بأن ما تخلل حفل الافتتاح كان خارجا عن الإرادة البشرية مثل هبوب الريح ما جعل المايكروفونات تنقل صوت الريح وصوت المقدّم والمتحدثين الكثر في وقت واحد. لكن لماذا لم تزوّد المايكروفونات بأجهزة رادعة لصوت الهواء طالما أن الحفل قرر أن يُـقام في الهواء الطلق؟ * نتاجات وأزمات * يبدو ما حدث بعيدا الآن، لكنه لا يزال يتردد خصوصا مع اقتراب موعد الاختتام الذي سيقوم في مكان مفتوح آخر (الأهرامات)، لكن ما يتسبب في الضيق حقيقة أن عروض الأفلام كثيرا ما تبدأ متأخرة. لا نتحدث عن 5 أو 10 دقائق يمكن نسيانها (رغم أنها أيضا ليست مبررة) بل عن نصف ساعة وأكثر كما حدث مع فيلم محمد راضي «حائط البطولات». في هذا النطاق، لا يشبه مهرجان القاهرة مهرجانا آخر بين المهرجانات العربية الرئيسة. الوقت لا يهدر (على النحو ذاته على الأقل) في سواه مثل مراكش ودبي وأبوظبي. لكن ذلك ليس اختيارا إداريا وليس ناتجا عن عدم اكتراث رئيس المهرجان بل عن عدم إنجاز الأشياء على نحو كامل بل توقّـف المسؤولين المنتدبين لهذه المهام عن المتابعة لأكثر من نصف ما هو متوقع. هل يكمن الحل في إدارة أجنبية؟ لقد فعلتها المهرجانات الرئيسة العربية الأخرى: أبوظبي جلب أميركيا ودبي جلب كنديا والدوحة (الذي توقف بعد 4 سنوات) جلب أسترالية. أما مراكش فما زال يعمل بمقتضى إدارة فرنسية. بالنسبة لدبي وأبوظبي فقد استطاعا في الوقت المناسب التخلّـص من الإدارة الغربية من دون أي خسائر في المقابل. على العكس، زادت صلة المهرجانين بالهوية الوطنية الشاملة لدولة تريد أن تقتحم كل المجالات الإبداعية بنجاح من دون تردد أو كلل. لكن مهرجان مراكش لا يزال مرتبطا بتلك الإدارة ولا توجد أي نيّـة للتخلّـي عن هذا الارتباط ما يفسّـر سبب عزوف المهرجان عن توجيه بعض برمجته صوب المزيد من الأفلام المغربية والعربية الأخرى. وضع السينما المغربية يختلف عن تلك المصرية ولو أن عدد الإنتاجات في السنوات الأخيرة أصبح متقاربا، هذا على الرغم مما قاله المنشّـط والسينمائي نور الدين الصايل وصرّح به. هو أكّـد على أن السينما المغربية احتذت بنجاح بما وفّـرته الأفلام المصرية السابقة من تجارب، وطالب- عن صواب- بأن لا تتخلّـى السينما المصرية عن ريادتها للسينما العربية. لكنه أكد أن وضع السينما المغربية بخير إذ أنتجت نحو 25 فيلما في العام الحالي. الرقم هو جيّـد بلا ريب، لكن ليس فقط أن عدد الجيّـد من هذه الإنتاجات محدود (فهذا أمر شائع بين الكثير من الدول) بل إن صالات السينما في المغرب (كما في الجزائر وتونس) تقفل أبوابها ما يجعل عرض هذه الأفلام، تجارية أم فنيّـة، محدودا و- إذا ما استمر الحال- سيؤدي إلى انحسار. أسباب ذلك متعددة من أهمها القرصنة وتعدد وسائل العروض حاليا. لكن الآمال الوحيدة تكمن في قدرة المنتجين والمخرجين المختلفين على المواصلة رغم قلّـة فرص العروض. من هذا الوضع ترتفع الأعمال الجيّـدة ومن الأزمات تنمو المواهب التي تريد أن تثمر أعمالها عن نتائج فنية مبهرة يُـتاح لها أكثر من الاشتراك في المهرجانات العربية المتزاحمة. تريد، والكثير منها فعل، الخروج من الخطوط الجغرافية العربية إلى العالم. في هذا الصدد، وفي كل عام، تسجل السينما العربية خطوة، ولو صغيرة، إلى الأمام.