جمال سلطان أشعر ـ مثل ملايين المصريين ـ بالقرف والغضب والإحباط بعد انتشار الفيديو الذي بثه تنظيم بيت المقدس على شبكة الانترنت صباح اليوم عن عملية كرم القواديس ، وقد قررنا في المصريون الامتناع عن بث الفيديو ، ليس فقط لأنه مهين ، وإنما أيضا احتراما لدماء الشهداء ومشاعر أسرهم ، ولكن تلك العملية وما سبقها وما لحقها لا يمكن السكوت عليها ، لا بد من مراجعة شاملة لكل ما قيل لنا عبر قيادات رسمية وعبر خبراء استراتيجيين وعبر الإعلام الرسمي والإعلام الخاص ، لا بد من مساءلة كل من قال لنا أن الإرهاب لن ينجح في أن يهز شعرة في رأس الوطن ، ولا بد من محاسبة أولئك الخبراء المعروفين بالاسم والمقربين من الأجهزة الرسمية والذين كانوا يسارعون في كل مرة ليظهروا عبر شاشات الفضائيات ليقولوا لنا أن العملية الإرهابية هي إعلان يأس من الإرهابيين ، وأن الإرهاب يلفظ أنفاسه الأخيرة ، وبعد كل تصريح نفاجأ بعملية إرهابية أكثر خطورة ووحشية مما سبقها ، حتى بدأنا نفاجأ بعمليات إرهابية في عرض البحر وعلى بعد أربعين ميلا من سواحل البلاد . يوم الأربعاء 24 يوليو من العام الماضي 2013 ، وجه الفريق أول عبد الفتاح السيسي ، وزير الدفاع وقتها والقائد العام للقوات المسلحة ، نداءا للشعب المصري بتفويضه لمواجهة مخاطر إرهابية محتملة ، وقال في كلمته : «أنا بصراحة بطلب من المصريين يوم الجمعة الجاية، لابد من نزول كل المصريين الشرفاء الأمناء، ينزلوا ليه؟ ينزلوا عشان يدوني تفويض وأمر بإني أواجه العنف والإرهاب المحتمل، أنا عمري ما طلبت منكم حاجة، وماليش إني أطلب منكم حاجة» ، ورغم أن مواجهة العنف والإرهاب هي مسؤولية بموجب الدستور والقانون ولا تحتاج لتفويض جماهيري أساسا ، ومع ذلك نزلت حشود من المصريين في الجمعة المذكورة وأبدت القيادة ابتهاجها بنجاح التفويض ، ومن يوم التفويض ـ وعلى مدار عام ونصف تقريبا ـ وقد وقعت سلسلة انتكاسات مروعة ، حيث كانت مذبحة رفح الثانية والتي راح ضحيتها 22 شهيدا من أبناء القوات المسلحة ، ثم وقعت فاجعة إسقاط الطائرة المروحية وراح ضحيتها خمسة من الشهداء ، ثم تفجير مديرية أمن جنوب سيناء ثم تفجير مديرية أمن الدقهلية وفي كليهما وقع ضحايا بالعشرات ، ثم وقعت مذبحة الفرافرة وراح ضحيتها قرابة 22 شهيدا من أبناء القوات المسلحة ، ثم وقعت مذبحة كرم القواديس وكانت الأكثر دموية ووحشية وراح ضحيتها قرابة 30 شهيدا ، ثم فوجئنا بعملية ساحل دمياط في عمق البحر والتي لا نعرف حتى الآن عدد ضحاياها بالضبط ولا تفاصيلها ، وإن كان البيان الرسمي يتحدث عن فقدان ثمانية من رجال البحرية ، سلسلة ممتدة ومتواصلة ، رغم أن التفويض الذي حصل عليه السيسي كان من أكثر من عام وأربعة أشهر ، يتحدث فيه عن إرهاب محتمل ولم يتوقف الإرهاب بل تزايد وتعاظم خطره ، وفي كل مرة كانوا يقولون لنا أن الأمور تحت السيطرة وأن الإرهاب يلفظ أنفاسه الأخيرة ، وكان وزير الداخلية يتباهى أمام الميكروفونات بأن مديريات الأمن وأقسام الشرطة محصنة بالمدفعية الثقيلة والآر بي جيه ، وقال عبارته الشهيرة اللي عايز يجرب يقرب ، وقد استجاب له الإرهابيون بعد ثلاث ليالي فقط ففجروا له مديرية أمن العاصمة ! خلال هذه المرحلة كلها ، دفع المصريون ثمنا غير قليل من حريتهم وحقوقهم ، فوضعت القوانين التي تمنع التظاهر السلمي ـ رغم أنف الدستور ـ وعوملت المظاهرات بقسوة مفرطة وسال دم الشباب من كل التيارات ، إسلامي ويساري وليبرالي ، على الأسفلت كما دخل مئات آخرون في غيابات السجون على تلك الخلفية حتى أصبح ملف مصر في حقوق الإنسان مثار استياء عالمي متكرر ، واقتحمت الجامعات في مسلسل شبه يومي وضرب الطلاب بالذخيرة الحية والخرطوش والغاز ، وأعلنت حالة الطوارئ في سيناء وهدمت بيوت المواطنين في رفح وتم تهجير مئات الأسر ، وبعدها استمر الإرهاب هناك وحصد أرواح المزيد من أبنائنا الجنود والضباط ، وبدا الأمر كما لو كانت المعادلة طردية بين تزايد إجراءات القمع والحصار الاستثنائية وبين تزايد أعمال العنف والإرهاب ، فكلما زادت الإجراءات الاستثنائية كلما زاد الإرهاب وتطور بوحشيته ، وما زال المستقبل مفتوحا على المجهول . متى يعترف المسؤول بأنه أخطأ ، متى يعترف بأنه أساء التقدير ، متى يعترف بأن المسار الذي انتهجه خاطئ وأن الحل ليس في المزيد من القمع والحصار والتهجير والسجون والملاحقات والإجراءات الاستثنائية ، وأن الحل هو في توحيد الوطن ، كل الوطن ، خلف معركة مصير ، وليس بتعزيز انقسام الوطن وصناعة كراهية وعداءات مجانية بين أبنائه ، متى نتعلم أن الهجمة الإرهابية في شمال سيناء لن يكون علاجها بقمع مظاهرات الطلبة في جامعة القاهرة ، وأن تطوير الإرهاب لأساليبه كما جرى في بحر دمياط لا يكون علاجه بتعزيز الحصار على نشطاء 6 أبريل في شوارع العاصمة وميدان طلعت حرب ووضع رموزهم في السجون ، وأن وضوح تزايد قدرات الإرهابيين في سيناء يستدعي أن تكون أولوية التدريب والتطوير والتسليح والدعم لجنودنا وضباطنا الذين يواجهون الإرهاب وليس لقوات مكافحة الشغب والمظاهرات ، متى نعترف بأن قهر الإرهاب والانتصار عليه يكون باستراتيجيات للتنمية والإصلاح السياسي والقانوني والإنساني وليس بخطط التوسع في بناء السجون الجديدة لاستيعاب أفواج أخرى من المعارضين المحتملين ، متى نعترف بأن الدولة لن تفلح في حربها على الإرهاب إذا استمر قلق الرئيس الحائر بين اهتزاز ولائه لثورة يناير وقيمها وجيلها وأشواقها ، وبين انجذابه إلى نموذج دولة مبارك بموازناتها وأدواتها وسياساتها وأجهزتها ، متى نتعلم الدروس من تجارب الآخرين الدموية من حولنا ، متى نعترف بأن القذافي لم يكن ينقصه أجهزة أمن قمعية وأجهزة استخبارات مروعة وإعلام يطبل له في الداخل والخارج، وقوانين استثنائية ، بل بلا قوانين أساسا ، متى نعترف بأن بشار الأسد لم يكن يملك جيشا ضعيفا ، ولا ينقصه أجهزة استخبارات أكثر من الهم على القلب وتملك قدرات مروعة ووحشية ولم يكن يفتقر إلى دعم مالي وسياسي وعسكري إقليمي ودولي من متعاطفين مع نظامه ولم يكن يحتاج إلى قوانين جديدة لأنه حكم طوال عهده وعهد أبيه بالقوانين الاستثنائية وحالة الطوارئ ، ومع ذلك انتهى ببلاده إلى ما نعرف . لم يفلت من أيدينا طريق الإصلاح والإنقاذ بعد ، وما زالت مصر قادرة على دحر الإرهاب وتجفيف منابعه ، ولكن علينا الاعتراف بأن المزيد من الإجراءات الاستثنائية التي يضار منها ملايين المواطنين العاديين الذين هم ليسوا جزءا من المعركة يعني المزيد من ضخ وقود الحياة للمنظمات الإرهابية تتغذى عليه وتجذب به المزيد من الأعضاء والموالين والمؤيدين الناقمين من الإجراءات الاستثنائية وآثارها والمزيد من الدعم المادي والمعنوي والفكري والسياسي ، علينا الاعتراف بأن هزيمة الإرهاب لن تكون عبر الجعجعة الإعلامية التي يمارسها خبراء الزور ولا إعلاميو البهلوانات ولا فهلوة المسؤولين ولا أغاني حسين الجسمي ، علينا الاعتراف بأن هزيمة الإرهاب لن تكون عبر أجهزة وأدوات وقوانين وصل بها الغثاثة والتفاهة أن تشغل الدولة بالحرب على روابط مشجعي كرة القدم وخناقاتهم مع رئيس ناديهم وهل نصنفهم تنظيمات إرهابية مثل داعش أم مجرد مجرمين عاديين ، علينا الاعتراف بأن الانتصار على الإرهاب لا يمكن في ظل سياسات منحازة للغة القمع والترويع وصناعة الكراهية والتمزق الوطني ، وسياسات اقتصادية تنحاز لحيتان عصر مبارك المهيمنين حاليا على البيزنس والبورصة والإعلام على حساب ملايين المصريين الحالمين بالعدالة الاجتماعية الموعودة ، علينا الاعتراف بأن مواجهة الإرهاب لا تنجح إلا بمنظومة إصلاح شامل ، تعيد وحدة النسيج الوطني الصلبة ، وتقنع الجميع بأنهم شركاء في صناعة حاضر الوطن ومستقبله ، وشركاء في المسؤولية ، وبالتالي شركاء في معاركه ، منظومة ترسخ قيم العدالة والإنسانية والديمقراطية في المجتمع ، وهي القيم التي تميز الدولة ـ كدولة ـ عن التنظيمات الخارجة عليها ، فالدولة لن تنتصر في معركة السلاح إلا إذا انتصرت في معركة الأخلاق . almesryoongamal@gmail.com المصريون