قبل أن تبدأ المعركة القضائية الدولية في التحقيق بجرائم حرب «الجرف الصامد» على غزة وكشف خبايا كثيرة، كما هو متوقع، من قبل ضباط وجنود شاركوا في هذا العدوان الإسرائيلي، كما فعلوا بعد حرب تموز عام 2006، عادت نيران هذه الحرب لتشتعل داخل المؤسسة الإسرائيلية، التي حاولت أن تظهر أمام العالم والإسرائيليين، منذ بدء العدوان، أنها موحدة في موقفها بضرورة إشعال هذه الحرب وتحقيق الانتصار للقضاء على ما اسمته «الإرهاب الفلسطيني». الشعلة الأولى للنيران الداخلية لهذه الحرب بدأت بين أبرز شخصيتين في المؤسسة العسكرية – الأمنية أي رئيس أركان الجيش بيني غانتس ورئيس الشاباك يورام كوهين، لكن هذه المعركة قد تتسع مع انقسام الداعمين في القيادة لهاتين الشخصيتين. وكما يبدو فان بنيامين نتانياهو ومن حوله من وزراء وسياسيين تجندوا لدعم غانتس، لكن رئيس الحكومة سيحاول إدارة هذه المعركة خلف الأبواب المغلقة بعيداً عن الإعلام لمنع كشف المزيد من الخلافات والتفاصيل أو حتى الأسرار، وكما قال الإسرائيليون لمنع «نشر غسيلهم الوسخ». فالخلافات هذه تجدد الصراعات الكبيرة بين الجيش والشاباك حول الكثير من القضايا التي تدرجها إسرائيل في قائمة «أمن الدولة»، وبرزت سابقاً بعد اختطاف الجندي جلعاد شاليط، عبر نفق إلى غزة في حزيران 2006، حيث ادعى الشاباك في حينه انه حذر الجيش مسبقاً، فيما قلل الجيش من أهمية التحذير وادعى أنه كان تحذيراً عاماً. وظهرت هذه الخلافات أيضاً في تقرير لمراقب الدولة، عام 2007، الذي تطرق إلى الإخفافات في معالجة الأنفاق في حينه. أما الحرب الجديدة بين الجهازين، وكما يراها سياسيون وعسكريون إسرائيليون، فقد نجمت بشكل خاص عن الخلاف المبدئي حول الصراع على الائتمان. فالجــيش الذي تبين وجود فجوات كبيرة في معلـــومات جهازه الاستخباري خلال الحرب، سوق إلـــى وسائل الإعلام نجاحاً كبيراً في نقل المعلومات العسكرية الجيدة إلى الوحدات المقاتلة خلال الحرب. ولكن الشاباك لم يحب طريقة تخفيض دوره فــي التقـــارير التي نشرت في وسائل الإعلام، على رغم دوره الجوهري في تحويل جزء كبير من المعلومات إلى الجيش. فتقرر إبراز دوره عبر وسائل الإعلام واختار التعاون مع برنامج تلفزيوني اسمه «حقيقة» ليطلق من هناك معركة «تصفية الحساب الطويلة مع الجيش»، فاشتعلت نيران الحرب بين الجهازين. هذه الحرب، وعلى رغم الموقف الداعم لنتانياهو للجيش إلا أنه وضع إسرائيل وقيادتها في موقف حرج، اضطر رئيس الحكومة إلى عقد اجتماع مغلق مع غانتس وكوهين بحضور وزير الدفاع موشيه يعالون، وطلب منهما التوقف عن الشجار العلني في قضايا يجب أن يتم حسمها داخل الجهاز الأمني. لكن هذا كان متأخراً فما كشف عبر شاشة القناة الثانية في برنامج «حقيقة»، وما كشفته صحيفة «هارتس»، وضعت الخلاف في مكان يرفض فيه أي طرف التنازل عن حقه في الدفاع عن نفسه. ومما كشف عبر برنامج «حقيقة» وصحيفة «هارتس» فان الصراع الرئيسي يتمحور بين الجيش والشاباك حول الأشهر التي سبقت الحرب. حيث وصف الشاباك التصعيد في غزة، عشية المواجهة، كخطوة مدروسة قادتها الذراع العسكرية لحماس بهدف اختراق الحصار الإسرائيلي - المصري المفروض على القطاع. واعتبرت شعبة الاستخبارات العسكرية ذلك بمثابة تطور عن طريق الصدفة، ولم يكن ثمرة قرار مخطط في الجانب الفلسطيني. وأولى الجانبان اهتماماً كبيراً للاستعدادات التي قامت بها حماس لتنفيذ عملية عبر النفق في منطقة كرم أبو سالم، على الحدود الجنوبية لقطاع غزة. وفي نيسان الماضي، قبل ثلاثة أشهر من الحرب، أصدر الشاباك وثيقة تحذير إلى الجهات السياسية والأمنية، أشار فيها إلى نية حماس تنفيذ عملية كبيرة في إسرائيل، وستحاول خلالها اختطاف مدنيين وجنود عبر النفق. وتم إحباط العملية في مطلع تموز، وإصابة خلية حماس، لكن الأمور تصاعدت ووصلت إلى الحرب. «الحقيقة والثقة» يتمحور الخلاف بين الاستخبارات العسكرية والشاباك، حول تفسير الأحداث التي أدت إلى اندلاع الحرب وهذه تتمحور في ثلاثة جوانب: نوعية المعلومات الاستخبارية التي توافرت لإسرائيل في شأن مشروع الأنفاق الهجومية الضخم لحركة حماس، وتحليل نوايا حماس في التوجه إلى الحرب، والتقييمات في شأن درجة إصرار حماس على مواصلة القتال لمدة 50 يوماً. في تحليل العسكريين الإسرائيليين والمطلعين على هذا الخلاف أشاروا إلى خطورة هذا الخلاف وأبعاده في كل ما تدعيه إسرائيل من استعدادات لمواجهة أي خطر محدق بها من مختلف الجبهات. الأنفاق: يشكل هذا الجانب الخلاف الأكبر بين الجيش والشاباك. وفي هذا الجانب لا يمكن لأي طرف إنكار عدم المفأجاة في شبكة الأنفاق التي واجهها الجيش عند دخوله غزة وإشعال «الجرف الصامد»، من حيث ضخامتها وعددها والتقنيات المتطورة التي شملتها. وقد انتهت الحرب والأرقام حول عدد الأنفاق التي تم كشفها أو تلك التي دمرها الجيش، مختلفة. في المعركة الداخلية الحالية يدافع الشاباك عن نفسه فيقول: انه كانت لدى الاستخبارات العسكرية والشاباك معلومات كثيرة ومفصلة حول الأنفاق. وبأنه قام منذ مطلع عام 2013 شهرياً، بتحويل تقارير إلى رئيس الحكومة ووزير الدفاع وقادة قوات الأمن شملت استعراضاً لجميع الأنفاق الهجومية المعروفة ومسار كل واحد منها. وعندما بدأت الحرب كان الجيش يعرف بتفصيل نسبي عن الأنفاق التي كلف بمعالجتها. وتم طرح مخاطر للأنفاق للنقاش عدة مرات في مكتب نتانياهو، الذي عين فريقاً برئاسة مستشار الأمن القومي في ذلك الوقت، يعقوب عميدرور، لمعالجة الموضوع». لكن ما تكشف بعد «نشر الغسيل الوسخ» للمؤسستين انه لم يتم إعداد خطة عسكرية شاملة وجدية لتدمير الأنفاق. وعندما دخل الجيش إلى غزة ظهرت ثغرات في المعدات والتدريب والنظرية العسكرية لمعالجة الأنفاق. واضطر الجيش الإسرائيلي إلى الاستعانة بشركات مدنية وقام بتدمير الأنفاق بشكل مرتجل. ومن هنا، نبعت التوقعات الواهية ليعلون، حين قال إن تدمير الأنفاق سيستغرق يومين أو ثلاثة أيام (في الواقع استغرق نحو أسبوعين ونصف). غياب التنسيق التنسيق بين الاستخبارات والمستوى السياسي: في هذا الجانب يتضح عدم التنسيق المطلق بين المؤسستين. ففي الجيش الإسرائيلي كانوا يستعدون لحرب أطلقوا عليها «حرب تموز مع حماس» وكشف عن ذلك أثناء لقاء مع الصحافيين على حدود غزة في 31 تموز (يوليو)، حيث قال ضابط كبير في كتيبة غزة أن قيادة المنطقة الجنوبية استعدت مسبقاً لحرب تموز مع حماس. ويستدل من ذلك أن الضابط لم يتطرق فقط إلى التاريخ الأساسي الذي حدده غانتس، وإنما إلى الفهم المسبق الذي تبلور في الجيش الإسرائيلي في شأن توجه حماس نحو الحرب في هذا الشهر. أما شعبة الاستخبارات فقد رفضت بشكل مطلق السماع عن هذا المصطلح. وتدعي انه لم يتم استخدامه من قبل الاستخبارات الإسرائيلية أو حماس قبل الحرب. لكن الشاباك يتحدث عنه بحرية، ويقول: لم نقل إن حماس تستعد للحرب في تموز ولكننا تكهنا بأن هذا يمكن أن يحدث بسبب ضائقتها الاستراتيجية. وكانت هذه المسألة بالغة الحساسية إلى حد تسببها باندلاع نقاش عاصف بين رئيس شعبة الاستخبارات أفيف كوخابي، ورئيس الشاباك يورام كوهن، خلال إحدى جلسات المجلس الوزاري. ولم يسمع الوزراء مسبقاً حول «حرب تموز» وكان من بينهم من دهش حين قرأ عن المصطلح لاحقاً، بالذات في وثيقة لمجلس الأمن القومي. وزادت دهشة البعض مع موافقة الشاباك لعناصر له في الظهور عبر شاشة التلفزيون للدفاع عن الجهاز وقيادته فتحدث رئيس قسم الشاباك في الجنوب وعرف بحرف (ر) وعاملان آخران في اللواء (من خلال إخفاء وجوه الثلاثة). وسعى هؤلاء إلى التأكيد أن الشاباك اقتنع منذ كانون الثاني بأن حماس تتجه نحو الحرب، وانه تم تحويل تحذير ملائم إلى الجيش، وهنا طرح الإسرائيليون تساؤلات: إذا كان الشاباك يعرف منذ كانون الثاني، ومع ذلك فقد فوجئت إسرائيل، فهذا يعني أن في الجيش من لم يقم بعمله؟؟. لكن الناطق العسكري موطي الموز نفى خلال البرنامج هذا الادعاء. واعتبر الجيش ما تم بثه خلال البرنامج بمثابة تجاوز للخط الأحمر وشن هجوم مباشر عليه من قبل مسؤول الشاباك الذي ظهر في البرنامج بتفويض من رئيس الشاباك يورام كوهين. ورداً على ذلك بعث القائد العام للجيش بيني غانتس برسالة إلى رئيس الحكومة بنيامين نتانياهو، طرح فيها ادعاءات ضد كوهين والشاباك. وتوج رسالته بعنوان «عن الحقيقة والثقة». وإلى حين بحث الإسرائيليين عن الحقيقة ومدى الثقــــة في مؤسساتهم السياسية والأمنية والعسكرية، تحذر جهات من أن هذا الخلاف سيجعل أعـــداء إســرائيل سعداء، خصوصاً في ظل التطورات الأمنــية الخطيرة في القدس والضفة. لكن كما في كل معـــركة سابقة، ستفعل إسرائيل هذه المرة وستحرص على تجميل صورتها وتأكيد وحدتها أمـــام العدو، فجـــندت مجموعات للترويج عبر مختلف وسائـــل الإعـــلام أن هذه الأزمة لن تؤثر في التعاون بين الجهازين من أجل ضمان مواجهة ما تتخوف منه إسرائيل من تدهور خطير يؤدي إلى انتفاضة ثالثة.